19 مارس 2025
يوفر مفهوم الأمننة في مجال دراسات الأمن إطارًا لفهم كيفية قيام القادة السياسيين والدول بتشكيل التهديدات واستغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. يشير مفهوم الأمننة، الذي طورته مدرسة كوبنهاغن[i]، إلى العملية التي يتم من خلالها تصنيف قضية ما كتهديد وجودي يتطلب تدابير استثنائية.[ii]
تعد هذه العدسة التحليلية مفيدة بشكل خاص في استكشاف ظاهرة تضخيم التهديدات، حيث يقوم القادة السياسيون بتضخيم التصور عمداً حول الخطر الذي يشكله "الآخر" بهدف تحفيز الدعم الداخلي وتبرير الإجراءات العسكرية.[iii] غالبًا ما تؤدي عملية الأمننة، رغم كونها أداة فعّالة في التعامل مع التحديات الفورية، إلى التركيز المفرط على الحلول العسكرية على حساب معالجة الشكاوى الأساسية أو القضايا الهيكلية.
"إطار تعريف 'الآخر': الفائدة السياسية لتضخيم التهديدات
الركيزة الأساسية للأمننة هي عملية التأطير. غالبًا ما يقوم القادة السياسيون بتحديد خصم خارجي أو داخلي — "الآخر" — من أجل حشد الدعم العام وترسيخ السلطة. يعد التأطير فعلًا مؤثرًا ليس مجرد وصف فقط. عند تصنيف القادة لقضية ما على أنها تهديد أمني، فإنهم يرفعون من أهميتها ويحولونها إلى قضية ذات أولوية وطنية. [iv]
يُقدّم عالم العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو، جون ميرشايمر، في تحليله لظاهرة "إثارة الفزع" رؤية معمقة حول أساليب القادة السياسيين في التلاعب بالتصورات المتعلقة بالتهديدات الخارجية لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية كما يوضح ميرشايمر بأن ظاهرة “إثارة الفزع” تضمن المبالغة في التهديدات أو اختلاقها لزرع الخوف في الأوساط المحلية أو الدولية. غالبًا يلجأ القادة إلى هذا التكتيك لتوحيد شعوبهم أو للحصول على دعم لسياسات مثيرة للجدل، او تبرير التدخلات العسكرية. [v]
صنفت حكومة الولايات المتحدة الإرهاب كتهديد وجودي وذلك في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مما أدى إلى أمننة "حرب الإرهاب". كان الخطاب المتعلق بأسلحة الدمار الشامل (WMDs) في العراق مثالًا على كيفية تضخيم التهديدات.[vi] استطاعت إدارة جورج بوش أن تأكد على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، رغم غياب الأدلة الملموسة، مما حفز الدعم العام للغزو في 2003، موضحًا كيفية استخدام الأمننة لتبرير التدخل العسكري.
وبالمثل، قامت إسرائيل بأمننة علاقتها مع إيران من خلال تصنيف البرنامج النووي الإيراني كتهديد وجودي. يشير القادة الإسرائيليون بشكل متكرر إلى مدى قرب إيران من تطوير الأسلحة النووية وكيف أن ذلك سيتسبب في زعزعة استقرار المنطقة ويمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإسرائيلي. برر التأطير الإسرائيلي مساعي الضغط السياسي من أجل فرض عقوبات دولية وشن ضربات استباقية محتملة. تم تصوير البيئة الأمنية لإسرائيل تاريخيًا على أنها تتسم بالضعف والتهديد الوجودي. منذ تأسيسها، اعتبر قادة إسرائيل بقاءها مهددًا بشكل دائم بسبب وجودها في محيط يضم دولًا معادية وفاعلين غير دوليين. هذا الطرح السياسي عن الضعف متجذر في الذكريات الجماعية للهولوكوست، والحروب الإقليمية، والعدائيات المستمرة.[vii]
من ناحية أخرى، تركز استراتيجية الطرح السياسي الإيرانية على شكواها التاريخية ضد القوى الغربية بينما تبرر طموحاتها النووية على أنها دفاعية بدلاً من عدوانية. تسعى إيران من خلال وضع نفسها كضحية للعدوان الخارجي إلى تقليل الانتقادات الدولية وتعزيز شرعيتها على الساحة العالمية. يُظهر هذا النهج كيف يمكن للدول التلاعب بالطرح السياسي للتعامل مع المشهد الجيوسياسي المعقد.[viii]
في سياق النزاع بين أوكرانيا وروسيا، قامت الدولتان بتوظيف الأمننة لتحفيز الدعم الداخلي والدولي. صوّرت روسيا تحالف أوكرانيا مع القوى الغربية كتهديد مباشر لمصالحها التاريخية والجيوسياسية، مبررةً أعمالها العسكرية بأنها ضرورية من أجل الأمن الوطني. بالمقابل، قامت أوكرانيا بأمننة العدوان الروسي، معتبرةً مقاومتها كدفاع عن السيادة والقيم الديمقراطية. لقد عززت هذه الأمننة المزدوجة المواقف المتصلبة لدى كلا الطرفين، مما جعل التفاوض على السلام أمرًا معقدًا. [ix]
في الحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية الثلاث الأخيرة، اعتمد دونالد ترامب بشكل متكرر على تضخيم التهديدات لتصوير التجارة الدولية على أنها أزمة اقتصادية تهدد الولايات المتحدة. من خلال اعتبار دول مثل الصين والمكسيك وكندا كمنافسين غير عادلين يستغلون العمال والصناعات الأمريكية، كان ترامب يصف الاقتصاد الأمريكي على أنه تحت تهديد خطير، مما عزز من دعم خططه الاقتصادية والتجارية. تم تقديم علاج ترامب المقترح — فرض الرسوم الجمركية — كأداة ضرورية لحماية المصالح الأمريكية. استطاع ترامب تحفيز الدعم بين الناخبين الذين شعروا بالتهميش نتيجة التحولات الاقتصادية من خلال مبالغته في تهديدات المنافسين الأجانب. النهج القائم على الخوف الذي اعتمده ترامب حوّل الانتباه من المشاكل الاقتصادية الداخلية مثل الأتمتة وتزايد الفجوة بين الأجور، وجعل اللوم ينصب على المنافسين الخارجيين.[x] كما تم تقديم الرسوم الجمركية كحل سهل للمشاكل التجارية المعقدة، رغم أن العديد من الاقتصاديين يرون أن هذا النهج قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات التي يسعى لمعالجتها.
دروس من الحرب الباردة: التمييز بين تصور التهديد والتهديد الحقيقي
الجانب الحاسم في مفهوم الأمننة هو التمييز بين التهديدات الفعلية والتهديدات المتصورة. تكون بعض التهديدات حقيقية وتتطلب ردود فعل سريعة، بينما يتم تضخيم أو اختلاق تهديدات أخرى بهدف تحقيق أغراض سياسية. يعتبر القادة بعض التحديات على أنها تهديدات ضخمة وذلك بحسب ميولهم الأيديولوجية، أو مصالحهم الاستراتيجية، أو تحيزاتهم النفسية. لكن لا تتماشى هذه التصورات في كثير من الأحيان مع الحقائق الواقعية.[xi]
في فترة الحرب الباردة، شهدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عملية أمننة متبادلة، حيث كان كل منهما يعتبر الآخر تهديدًا وجوديًا. بالرغم من وجود المنافسة الأيديولوجية والعسكرية الحقيقية، فإن مبالغة التهديد ساهمت في تأجيج سباقات التسلح والحروب بالوكالة لفترة طويلة. قامت الولايات المتحدة بتصوير الاتحاد السوفيتي كخطر استبدادي، محذرة من انتشار الشيوعية التي من شأنها أن تهدد القيم الديمقراطية والاستقرار العالمي. صوّر هذا الطرح السياسي الاتحاد السوفيتي كقوة توسعية تهدف إلى الهيمنة العالمية، وهو ما تجسد في "نظرية الدومينو" الشهيرة في تلك الفترة، التي افترضت أنه إذا تم السماح للسوفييت بتغيير النظام السياسي في دولة ما، فإن أيديولوجيتهم ستنتقل قريبًا إلى الدول المجاورة.[xii]
من ناحية أخرى، كان الاتحاد السوفيتي يرى الولايات المتحدة كقوة إمبريالية مدفوعة بالجشع الرأسمالي، حيث كان يهدف وجودها العسكري وتحالفاتها إلى محاصرة وتقويض الاشتراكية. صوّرت الدعاية السوفيتية الولايات المتحدة كدولة مروجة للحروب وتهديدًا مباشرًا لوجود الدولة السوفيتية ولمبادئ الماركسية-اللينينية. ساهم هذا التصوير في تعزيز الطرح السياسي القائم على الصراع الوجودي بين نظامين متعارضين، مما دفع كلا البلدين إلى التنافس الشديد من أجل التفوق العسكري والنفوذ، وغالبًا ما كان ذلك على حساب الدبلوماسية أو التعايش السلمي.[xiii]
حالة الّلأمننة: التركيز على الأسباب الجوهرية بدلاً من المؤشرات.
يمكن أن تسهم الأمننة في استمرار دورات الصراع بدلاً من معالجتها، حيث يؤدي في كثير من الأحيان إلى التركيز الزائد على الحلول العسكرية وتهميش الحلول غير العسكرية في معالجة النزاعات. الاعتماد المفرط على الحلول العسكرية يمكن أن يزيد من التوترات القائمة ويخلق توترات جديدة. لقد منعت الأمننة للبرنامج النووي الإيراني، على سبيل المثال، فرص الانخراط الدبلوماسي. على الرغم من أن العقوبات والتهديدات العسكرية كانت تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، إلا أنها ساهمت أيضًا في تعزيز النزعة الوطنية الإيرانية وعززت موقف النظام.[xiv]
تخصيص موارد كبيرة لميزانيات الدفاع يظهر تفضيل الحلول العسكرية، بينما يتم تهميش الجهود الدبلوماسية ومبادرات التنمية. على سبيل المثال، كانت استجابة الولايات المتحدة للإرهاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر مشبعة بالحلول العسكرية، حيث تم إنفاق تريليونات الدولارات على الحروب في أفغانستان والعراق. في حين أن هذه التدابير حققت بعض النجاحات التكتيكية، إلا أنها لم تفعل الكثير لمعالجة الأسباب الجذرية للإرهاب، مثل عدم الاستقرار السياسي، والحرمان الاقتصادي، والتطرف الفكري.
أحد أهم الانتقادات للأمننة هو ميلها للتركيز على المؤشرات الحالية بدلاً من الأسباب طويلة الأمد، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى حلول قصيرة الأمد لا تحقق السلام المستدام. النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني هو مثال على ذلك. قام الجانبان بأمننة طرحهم السياسي، حيث صور كل منهما الآخر كتهديد وجودي. برر هذا التأطير الأعمال العسكرية وعزز الموقف العام، إلا أنه لم يكن له تأثير كبير في معالجة الأسباب الجذرية للنزاع مثل التنافس على الأراضي والمظالم التاريخية.[xv]
بالمثل، أدت أمننة تغير المناخ كتهديد للأمن القومي إلى الدعوة لاستخدام تقنيات الهندسة الجيولوجية وتعزيز التحصينات الحدودية للتعامل مع الهجرة الناجمة عن التغيرات المناخية. بالرغم من أن هذه التدابير قد تقلل من المخاطر الفورية، إلا أنها لا تعالج المسببات الرئيسية لتغير المناخ، مثل انبعاثات الكربون وممارسات التنمية غير المستدامة.[xvi] من الضروري اتباع نهج أكثر شمولية يدمج الأمن مع الاستدامة البيئية من أجل معالجة هذه التحديات بشكل فعّال.
تقدم عملية اللّأمننة[xvii] مسارًا محتملًا لتخفيف التوترات وإيجاد حلول أكثر فعّالية للنزاعات. تنطوي هذه العملية على إعادة صياغة القضايا من تهديدات وجودية إلى تحديات يمكن إدارتها من خلال الوسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. على سبيل المثال، يمكن أن تركز الجهود الرامية إلى اللّأمننة للعلاقة بين الولايات المتحدة وإيران على بناء الثقة من خلال اتفاقيات تدريجية، مثل العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. على غرار ذلك، قد يتضمن تطبيق اللّأمننة في النزاع بين أوكرانيا وروسيا إنشاء آليات للحوار ومعالجة المظالم الأساسية مثل الحكم الذاتي الإقليمي ودور منظمة حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية.
الخاتمة
تعد الأمننة أداة قوية تُمكّن القادة السياسيين من تصوير القضايا على أنها تهديدات وجودية، وتحفيز الشعوب، وتبرير اتخاذ تدابير استثنائية. على الرغم من أن هذه العملية قد تكون فعّالة في التعامل مع التحديات الفورية، إلا أنها غالبًا ما تتضمن تضخيم التهديدات لأغراض سياسية، مما يؤدي إلى التركيز المفرط على الحلول العسكرية وتجاهل الأسباب الجذرية. لتجاوز قيود الأمننة، يجب على صناع القرار تبني نهج متوازن يجمع بين التدابير الأمنية والجهود الرامية إلى معالجة المظالم الأساسية والتحديات الهيكلية. يبرز مفهوم اللأمننة أهمية تغيير إطار النزاعات للتركيز على الحلول طويلة الأجل، وتعزيز الثقة، ومعالجة القضايا الهيكلية.
[i] Securitization was developed by the Copenhagen School of Barry Buzan, Ole Wœver, Jaap de Wilde and others because most writings emerged at the Conflict and Peace Research Institute (COPRI) in Copenhagen in the 1990s.
[ii] Wæver, O. (1995) “Securitization and Desecuritization”, in: R. D. Lipschutz (Ed.), On Security (pp. 46-87). Columbia University Press.
[iii] Malik, Shahin (2021) “Constructing Security”, in: Peter Hough et al, eds., International Security Studies. Theory and Practice. 2nd edition. Routledge, pp. 72-84
[iv] Nyman, Jonna (2023) “Securitization”, in: Paul D. Williams and Matt McDonald eds., Security Studies. An Introduction. 4th edition. Routledge, pp. 115-130
[v] Mearsheimer, John (2011) Why Leaders Lie: The Truth About Lying in International Politics. Oxford University Press, pp. 45-62
[vi] Buzan, Barry (2006) ‘Will the 'Global War on Terrorism' Be the New Cold War?’, International Affairs, Vol. 82, No. 6, pp. 1101-1118, Will the 'Global War on Terrorism' Be the New Cold War? on JSTOR
[vii] Michael, Kobi (2009) “Who Really Dictates What an Existential Threat Is? The Israeli Experience”, Journal of Strategic Studies, 32:5, 687-713, DOI: 01402390903189360/10.1080
[viii]Tabatabai, Ariane M. (2019) Iran’s National Security Debate. Implications for Future U.S. -Iran Negotiations. RAND Corporation, pp. 17-22, Iran's National Security Debate:Implications for Future U.S. -Iran Negotiations.
[ix]Siddiqi, Muhammad Usama and Brilliant Windy Khairunnisa, ‘Applying Securitisation Theory to the Ongoing Russia-Ukraine Conflict’, Paradigm Shift, January 13, 2023, Securitisation Theory & the Russia-Ukraine.. - Paradigm Shift
[x] Rediker, Douglas, ‘The Consequences of Trump’s tariff threats’, Brookings, December 11, 2024, The consequences of Trump’s tariff threats
[xi] Stępka, M. (2022) “The Copenhagen School and Beyond. A Closer Look at Securitisation Theory”, in: Identifying Security Logics in the EU Policy Discourse. IMISCOE Research Series. Springer, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-030-93035-6_2
[xii] Krebs, Ronald R. “How Dominant Narratives Rise and Fall: Military Conflict, Politics, and the Cold War Consensus.” International Organization, vol. 69, no. 4, 2015, pp. 809–45. JSTOR, http://www.jstor.org/stable/24758258
[xiii] Tsygankov, Andrei P. (2022) Russia’s Foreign Policy. Change and Continuity in National Identity. 6th edition, Rowman and Littlefield, Chapter 2.
[xiv] Mabon, S., Nasirzadeh, S., & Alrefai, E. (2021) “De-securitisation and Pragmatism in the Persian Gulf: The Future of Saudi-Iranian Relations”, The International Spectator, 56(4), 66–83. https://doi.org/10.1080/03932729.2021.1989183
[xv] Nathan, Daniel and Itay Fischhendler, ‘Triggers for securitization: a discursive examination of Israeli–Palestinian water negotiations’, Water Policy, 1 February 2016; 18 (1): 19–38. doi: https://doi.org/10.2166/wp.2015.027
[xvi] Scott, S.V. (2012) ‘Securitization of Climate Change’, Review of European Community and International Environmental Law, 21: 220-230. https://doi.org/10.1111/reel.12008
[xvii] Haughton, S.A. (2019) “Securitization and De-securitization”, in: Romaniuk, S., Thapa, M., Marton, P. (eds.) The Palgrave Encyclopedia of Global Security Studies. Palgrave Macmillan, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-319-74336-3_122-1