تعتمد منظومة التجارة العالمية اعتمادًا كبيرًا على التجارة البحرية، حيث يُنقل أكثر من 90٪ من البضائع بحرًا. وتقع في صميم هذه المنظومة مراكز الموانئ العالمية، مثل روتردام، وأنتويرب، وهامبورغ، التي أصبحت لا غنى عنها في سلاسل التوريد لدولية بفضل كفاءتها وابتكارها.[1]
ومع ذلك، أصبحت موانئ الحاويات الرائدة في أوروبا الآن في طليعة صراع محتدم بين التجارة المشروعة والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. فالسوق الأوروبية المربحة للغاية للمخدرات تجذب الجماعات الإجرامية من مختلف أنحاء العالم، والتي تغلغلت بشكل متزايد في هذه الموانئ لضمان تمرير منتجاتها غير المشروعة عبر أول نقطة دخول إلى القارة.
في حين أن السلطات الأوروبية قد قطعت شوطًا كبيرًا في توظيف التكنولوجيا وتبادل المعلومات الاستخبارية والتنسيق بين الوكالات، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات هائلة. فكثيرًا ما تفتقر الشرطة إلى الموارد التي تمتلكها الكارتلات، ويتعين عليها التغلب على التعقيد اللوجستي الذي يكتنف شحن الحاويات وحجم الموانئ الهائل.
ضحايا نجاحهم: المجرمون يستغلون حجم وكفاءة الموانئ
تُعدّ أوروبا وجهةً رئيسيةً لتجار المخدرات نظرًا للربحية العالية التي توفرها. فالكوكايين القادم من كولومبيا أو البرازيل، والهيروين من أفغانستان عبر طريق البلقان، والمخدرات الاصطناعية المُنتَجة في مختبرات سرّية داخل أوروبا، جميعها تشكّل جزءًا من صناعة غير مشروعة تدرّ مليارات اليورو. وعلى عكس الأسواق في أمريكا الشمالية، غالبًا ما يدفع المستهلكون الأوروبيون أسعارًا أعلى للمخدرات بسبب ارتفاع الطلب عليها، وقلة توافرها، وتأثير شبكات التوزيع المنظمة.[2]
تستغل الكارتلات، الأجنبية والمحلية على حد سواء، ظروف السوق هذه بشراسة. وتتعاون الكارتلات الكولومبية والمكسيكية مع المنظمات الإجرامية الأوروبية، بما في ذلك المافيا الإيطالية، والجماعات الهولندية التركية، وشبكات البلقان. وما إن تصل المخدرات إلى شواطئ أوروبا، حتى تتولى الشبكات الإجرامية المحلية عمليات التوزيع، غالبًا عبر سلاسل لوجستية متطورة من الطرق والسكك الحديدية والجوية، مستفيدةً بالكامل من البنية التحتية للنقل المتكاملة في أوروبا.[3]
تُعدّ موانئ روتردام وهامبورغ وأنتويرب من بين أكثر الموانئ ازدحامًا وتطورًا في العالم. فميناء روتردام وحده يتعامل مع أكثر من 14 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدمًا (TEU) سنويًا. وبالمثل، تُعالج أنتويرب وهامبورغ ملايين الحاويات، التي تحتوي كل منها على آلاف المنتجات، من الإلكترونيات والمنسوجات إلى المواد الغذائية والصناعية. ويُشكّل الحجم الهائل للبضائع واعتماد النظام على الحاويات بيئةً مثالية لإخفاء المواد غير المشروعة.[4]
تستغل الشبكات الإجرامية هذه الظروف من خلال إخفاء المخدرات داخل الشحنات المشروعة، معتمدة على الواقع الإحصائي بأن أقل من 2–5٪ من الحاويات تخضع للتفتيش الفعلي.[5] والمنطق بسيط: حتى لو تم ضبط بعض الحاويات، من المرجح أن تمر غالبية المخدرات دون أن يتم اكتشافها. هذه العمليات ليست عشوائية، بل تعتمد على دقة لوجستية، ووثائق مزوّرة، ووصول داخلي إلى أنظمة الموانئ وجداول الجمارك.
المهرّب المتطور (المتمرس): كيف يتفادى المجرمون الكشف
تُعدّ الحاويات، التي تُشكّل العمود الفقري للتجارة العالمية الحديثة، في الوقت نفسه عوامل تسهيل أساسية لتهريب المخدرات. فطبيعتها المعيارية والحجم الهائل المنقول يوميًا يجعلها أماكن مثالية للإخفاء. وقد باتت المنظمات الإجرامية أكثر تطورًا في تقنيات الإخفاء التي تتبعها. فإلى جانب مجرد وضع المخدرات داخل شحنات مشروعة، تستخدم هذه المنظمات حاويات مُعدّلة خصيصًا تتضمن مقصورات مخفية أو جدران وأرضيات زائفة. كما تُستخدم تقنيات مثل تبطين الحاويات بطبقات مزدوجة أو ثلاثية، واستخدام مواد كيميائية تمويهية لإخفاء الروائح عن الكلاب البوليسية وأجهزة المسح الضوئي التكنولوجية، وهو ما يعكس تطورًا مستمرًا في أساليب التهريب.[6]
علاوة على ذلك، تنوعت أساليب التهريب لتتجاوز مرافق الموانئ التقليدية. وأصبح التفريغ في عرض البحر، حيث تُنقل المخدرات من سفن الحاويات الكبيرة إلى زوارق أصغر، أمرًا شائعًا بشكل متزايد. حيث يسمح ذلك للمهربين بتجاوز مراقبة الموانئ كليًا، ونقل البضائع المهربة إلى الشواطئ باستخدام قوارب صيد أو زوارق سريعة دون أن ترصدها أجهزة إنفاذ القانون.[7]
ومع تشديد الرقابة في أكبر الموانئ الأوروبية، يتكيّف المهربون بالبحث عن منافذ دخول بديلة. فقد أصبحت الموانئ الأصغر، ذات الموارد المحدودة والمراقبة الأضعف – مثل تلك الواقعة في فرنسا، وإسبانيا ومنطقة البحر الأدرياتيك – أهدافًا ثانوية للتهريب.كما يتم اللجوء إلى وسائل نقل غير بحرية، مثل الشحن الجوي والسكك الحديدية، لتعزيز عمليات التهريب، خاصةً بالنسبة للمخدرات الاصطناعية المنتجة داخل أوروبا نفسها.
الترابط بين الموانئ والجريمة: استغلال الثغرات البشرية والنظامية ولعل أخطرها هو الفساد داخل عمليات الموانئ. فقد كشفت التحقيقات في روتردام وأنتويرب عن اختراق إجرامي إلى شركات الخدمات اللوجستية وخطوط الشحن ونقابات عمال الموانئ. ويستطيع ما يُعرف بـ"عُمال النظافة" – وهم موظفون فاسدون يتولون استخراج أو تحويل الحاويات – جني ما يصل إلى 100,000 يورو في العملية الواحدة. وبفضل وصول هؤلاء الأشخاص إلى بيانات التوجيه وجداول التفتيش، يحقق المتاجرون مزايا جوهرية.[8]
وفي هامبورغ وروتردام، أصبحت طريقة “الإخفاء المؤقت داخل الحاويات أثناء العبور” (Rip-on/Rip-off) شائعة: حيث يتم اقتحام الحاويات أثناء نقلها لإدخال المخدرات وإخراجها قبل عمليات التفتيش الرسمية.وتتطلب هذه الطريقة تنسيقًا دقيقًا عبر نقاط متعددة في سلسلة التوريد، وغالبًا ما يُسهّله عمال الموانئ أو موظفو الخدمات اللوجستية الفاسدون.[9]
كما أدى التحوّل الرقمي في أنظمة الموانئ إلى ظهور مخاطر جديدة. فقد أتاحت أنظمة التتبع الآلية، وقواعد البيانات اللامركزية، والاعتماد على التخليص الجمركي الإلكتروني ثغرات قابلة للاستغلال. وتمكن المجرمون من اعتراض الحاويات أو إعادة توجيهها عبر التلاعب ببيانات الشحن. علاوة على ذلك، مكّنت منصات المراسلة المشفرة، مثل Sky ECC وEncroChat، من التنسيق العالمي لعمليات التهريب، إلى أن نجحت أجهزة إنفاذ القانون الأوروبية باختراقها بين عامي 2021 و2023، كاشفةً عن شبكات عابرة للحدود الوطنية واسعة النطاق، وأظهرت محدودية الاعتماد على تقنيات المراقبة التقليدية وحدها.[10]
لمواجهة المد: أجهزة إنفاذ القانون تلجأ إلى التكنولوجيا
على الرغم من استخدام تقنيات المسح، والكلاب المدربة على كشف المخدرات، ونماذج تقييم المخاطر الاستخبارية، إلا أن سلطات الجمارك والموانئ الأوروبية تعاني من ضغط الحجم الهائل للبضائع. إذ تتعامل موانئ مثل روتردام وأنتويرب مع عشرات الآلاف من الحاويات يوميًا. وتحدّ قيود الموارد والقوى العاملة والوقت والتكنولوجيا من عدد الحاويات التي يمكن تفتيشها بدقة كافية. ويفهم المهربون هذه الثغرات، ويستغلونها بشكل منهجي، من خلال شحن كميات ضخمة مع إدراكهم أن نسبة كبيرة منها ستمر دون أن يكتشفها أحد.
وبينما تحظى بعض عمليات الضبط الكبيرة، مثل ضبط أكثر من 60 طنًا من الكوكايين في روتردام عام 2023، باهتمام إعلامي واسع وتتصدر عناوين الصحف، فإنها لا تمثل سوى جزء ضئيل مما يُعتقد أنه يصل دون يُكشف. ويستمر "سباق القط والفأر" بين إنفاذ القانون والمنظمات الإجرامية، حيث يتطور كل جانب استجابةً لابتكارات الآخر.
وأمام هذه التهديدات المعقدة، شرعت السلطات الأوروبية في تنفيذ حملات تكتيكية وإصلاحات هيكلية. ففي روتردام، ساهم توسيع فريق هارك (استهداف الشحنات السريعة والعابرة)، وهو فريق عمل مشترك يضم الجمارك والشرطة والنيابة العامة، في تحسين عمليات التفتيش عالية المخاطر واستهداف الشبكات الإجرامية باستخدام تقنيات متقدمة في التحليل الاستخباراتي.[11]
كما يجري اختبار ترقيات تكنولوجية متطورة، مثل أنظمة مسح الحاويات واكتشاف الشذوذ المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحديد الشحنات المشبوهة بناءً على نوع الشحنة ومصدرها وتاريخ الشحن وسلوك المُشغل. وتُصمم هذه الأدوات لدعم المفتشين البشر لا استبدالهم، عبر تحديد الشحنات عالية المخاطر لتفتيشها يدويًا بشكل أكثر دقة.[12]
وعلى المستوى فوق الوطني، كثّف اليوروبول، والإنتربول، وسلطات الجمارك الإقليمية التعاون عبر الحدود من خلال قواعد بيانات مشتركة وعمليات منسقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك عملية روتردام-أنتويرب عام 2024 التي أسفرت عن تفكيك شبكة تهريب كبيرة مرتبطة بكارتلات كولومبية وألبانية.
ورغم هذه الجهود، لا تزال التحديات قائمة. فهناك قيود قانونية على تبادل البيانات، وتفاوت في القدرات بين الموانئ، وتجزؤ في الاختصاصات، ما يعوق الاستجابات الشاملة. كما أن تحسن إنفاذ القانون في الموانئ الكبرى مثل روتردام، يدفع المهربين إلى التوجه نحو موانئ بديلة أو أقل رقابة، وهو ما يبرز الحاجة إلى استراتيجية أمنية بحرية شاملة على مستوى القارة الأوروبية.
بيان إخلاء المسؤولية:
الآراء والأفكار الواردة في سلسلة منشورات "رؤى وآراء" تعبر عن وجهات نظر كتّابها فقط، ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف مركز ربدان للأمن والدفاع أو أي من الجهات التابعة له أو أي جهة حكومية. يُنشر هذا المحتوى لأغراض إعلامية، ويعكس الرؤى الشخصية للمؤلفين حول مواضيع متنوعة تتعلق بالأمن والدفاع.
[1] International Chamber of Shipping, ‘Shipping and World Trade: World Seaborne Trade’, Shipping and World Trade: World Seaborne Trade | International Chamber of Shipping
[2] Wells, Ione ‘Tracking the world's major cocaine route to Europe - and why it's growing’, April 9, 2025, BBC, Tracking the world’s major cocaine route to Europe - and why it’s growing
[3] TT Club, ‘Freight industry must resist the tidal wave of drug smuggling’, May 30, 2023, Press release | Freight industry must resist the tidal wave of drug smuggling - TT Club
[4] The Brussels Time, ‘Antwerp surpasses Rotterdam for the first time in container throughput’, April 22, 2025, Antwerp surpasses Rotterdam for the first time in container throughput
[5] Europol, ‘CRIMINAL NETWORKS IN EU PORTS Risks and challenges for law enforcement’, March 30, 2023, Europol_Joint-report_Criminal networks in EU ports_Public_version.pdf
[6] Ramirez, Maria Fernanda ‘Container Shipping: Cocaine Hide and Seek’, February 8, 2021, insightcrime.org, Container Shipping: Cocaine Hide and Seek
[7] Xavier, Will ‘US Coast Guard offloads more than $14m in illicit drugs interdicted in Caribbean Sea’, May 5, 2025, Baird Maritime, US Coast Guard offloads more than $14m in illicit drugs interdicted in Caribbean Sea
[8] Zürcher, Emma et al, ‘Drug-related corruption at Schiphol Airport and the Port of Rotterdam’, RAND Europe, 2024, Microsoft Word - RAND_RR-A2870-1_English summary.docx
[9] European Drug Agency (EUDA), ‘Cocaine trafficking to Europe’, 31 May, 2016, Cocaine trafficking to Europe | www.euda.europa.eu
[10] Europol, ‘Encrypted app intelligence exposes sprawling criminal networks across Europe’, Encrypted app intelligence exposes sprawling criminal networks across Europe | Europol
[11] COMCEC, ‘Improving the Border Agency Cooperation Among the OIC Member States for Facilitating Trade,’ September 2016, 8-TRD-AR.pdf
[12] Hello Future, ‘Contraband: AI efficiently detects anomalies in shipping containers’, February 18, 2025, Contraband: AI efficiently detects anomalies in shipping containers – Hello Future