ظهور القوات الجوية غير المتجانسة وأثرها على القوات الجوية

22 يناير 2024


شهدت القوات الجوية تحولاً كبيرًا وغير متوقع على مرأى ومسمع من الجميع؛ فبعدما كانت القوات الجوية لفترة طويلة تتألف بشكل أساسي من طائرات مأهولة ومراكز تدريب وإسناد، توسع هذا النموذج تدريجيًا مع استخدام الصواريخ والقذائف وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة. وأثار الاستخدام المفاجئ لعدد كبير من الطائرات المسيّرة صغيرة الحجم ومنخفضة التكلفة في حرب أوكرانيا اهتمامًا واسعًا، إلا أن هذا الاهتمام الكبير بهذا التحول قد حجب النظر عن تحول أعمق وأكثر شمولاً يتجاوز استخدام الطائرات المسيّرة؛ وهو تحول العمليات الجوية تحولاً ضخمًا من كونها متجانسة بطبيعتها إلى غير متجانسة.

ولهذا التحول دور محوري في العمليات الجوية القتالية الجارية حاليا؛ حيث يتم استخدام مجموعة متنوعة بشكل استثنائي من أنظمة الصواريخ والقذائف والمسيرات في الصراعات الدائرة في أوكرانيا وروسيا وإيران وحزب الله والحوثيين وحماس طوال العام الماضي؛ ما يلفت الانتباه أيضًا أن هذا الاستخدام كان واسع النطاق ومستمر ومكثف بصورة موسعة.

تستخدم كل من الدول والجهات الفاعلة من غير الدول القوات الجوية غير المتجانسة بشكل منتظم في شن عمليات جوية هجومية واسعة النطاق جيدة التنسيق، فقد شمل هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 استخدام أنواعًا متعددة بالآلاف من الصواريخ الباليستية، والمسيرات التجارية بدون طيار المعدلة لإسقاط الذخائر، ومسيرات الزواري القتالية، والطائرات الشراعية. يهاجم الحوثيون الآن السفن باستخدام هجمات متسلسلة بأنواع متعددة من المسيرات والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز المضادة للسفن. وأطلقت إيران في هجومها يومي 13 و14 أبريل 2024 نحو 170 مسيرة و120 صاروخا باليستيا و350 صاروخا غير موجه (وكالات، 2024).

وفي الوقت نفسه، ليست الدول الكبرى بمعزل عن هذا المشهد كما يتضح من الهجوم الذي شنته روسيا في 7 فبراير 2024 على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، وهذه العملية ليست سوى واحدة من بين العديد من العمليات الجوية المنسقة جيدًا والتي تضمنت عدد 63 مسيرة هجومية وخداعية من طراز شاهد-136 وشاهد-131، وعدد 12 صاروخًا باليستيًا يُطلق من الأرض من طراز إسكندر-إم؛ وعدد 40 صاروخ كروز دون سرعة الصوت يُطلق من الجو من طراز Kh-101/Kh-555؛ وعدد 5 صواريخ كروز مضادة للسفن يتم إطلاقها من الجو من طراز Kh-22 تُستخدم في وضع الهجوم الأرضي الثانوي؛ وعدد 7 صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت تُطلق من الجو من طراز Kh-47M2 Kinzhal؛ وصاروخان جو-أرض موجهان من طراز Kh-59؛ و22 صاروخ أرض-جو من طراز S-300/S-400 تُستخدم في وضع الهجوم البري الثانوي (ميدوزا، 2024).

جدير بالذكر أن تشكيل واستخدام مثل هذه المجموعة الواسعة النطاق من الأصول الجوية المتنوعة كان مقتصرًا على الولايات المتحدة. وفي واقع الأمر يرى البعض أن القوات الجوية الفضائية الروسية (VKS) فشلت في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا لأنها لم تتمكن من بناء مجموعات قتالية جوية كبيرة من أنواع مختلفة من الطائرات المأهولة (قالامايزون وبيتيرسون 2023). إلا أن القوات الجوية غير المتجانسة غيرت هذا الوضع، حيث تتيح حاليًا لمعظم الدول والجهات الفاعلة من غير الدول تصميم واستخدام مجموعة جوية هجومية ودفاعية كبيرة.

ومن الواضح أن الحروب الجوية المستقبلية ستتضمن في الأغلب عمليات جوية غير متجانسة وواسعة النطاق وجيدة التنسيق؛ وهو ما يمثل فرصًا وتهديدات للقوات الجوية الحالية بسبب أثارها الكبيرة من الناحية الاستراتيجية والعملياتية والتنظيمية وعلى قطاع الدفاع.

أولاً: من الناحية الاستراتيجيية: عالميًا

على المستوى الاستراتيجي، بات واضحًا أن الدول وغير الدول بإمكانها استخدام القوات الجوية غير المتجانسة سواءً كانت كبيرة أم صغيرة. ونظراً للتعقيدات الضمنية الناتجة عن تنوع المستخدمين، يمكن القول جدلاً أن قوات الدفاع الوطنية ليس بإمكانها البقاء على اطلاع جيد بجميع أولئك الذين قد يستخدمون مثل هذه القوة الجوية في المستقبل، كما أن ليس بمقدورها التنبؤ بالشكل الذي قد تتخذه. وتتجلى صعوبة ذلك في عدم انتباه إسرائيل لاستعدادات حماس لشن هجومها الجوي على حدود غزة. ورغم أن غزة ظلت تحت المراقبة المكثفة جوًا وبرًا وبحرًا طوال عقود من الزمان، ورغم رصد الكثير، إلا أن التقدير الكامل للوضع ظل غائبًا.

قد يكون البديل هو استعداد القوات الجوية لتقبل عنصر المفاجأة، وأن يكون لديها القدرة على التكييف مع أي ظروف جديدة بسرعة وكفاءة، وهو ما قد يكون صعبًا، ذلك أن القوات الجوية ليست مؤسسات سريعة دائمًا لأسباب عديدة من بينها طبيعة آلياتها من حيث البقاء في الخدمة لفترات تصل إلى 30 سنة أو ربما لعدم وجود ظروف تستدعي استخدام العديد منها.

ومع ذلك، فإن تحقق عنصر السرعة الكافية من المرجح أن يتطلب من القوات الجوية أن تكون قادرة على إنشاء هياكل قوة غير متجانسة بسرعة بحيث تشمل مسيرات وصواريخ باليستية وصواريخ كروز وصواريخ غير موجهة وطائرات مأهولة. يوفر هيكل القوة غير المتجانسة ذات النطاق الواسع العديد من الإمكانيات الإستراتيجية والعملياتية والتعبوية أكثر من الإطار الضيق للطائرات المأهولة فقط.

ثانيًا: من الناحية العملياتية: التعطيل

من الناحية العملياتية، فان الدفاع ضد هجوم القوة الجوية غير المتجانسة يتطلب حاليًا وبشكل أساسي القدرة على التخفي وتجنب الاكتشاف. ويخضع خط المواجهة بين القوات الأوكرانية والروسية اليوم لمراقبة جوية مكثفة حيث يتم تركيز النيران الثقيلة غير المباشرة بسرعة على أي أهداف معادية يتم اكتشافها باستخدام المسيرات والصواريخ والقذائف والمدفعية. وكي تحافظ القوات العسكرية على بقائها، يجب أن تتوزع إلى عناصر صغيرة حيث يكون كل عنصر أقل جذبًا للاستهداف، واتخاذ تدابير لخداع العدو وتشويشه وإرباكه في مواجهة القوة الجوية غير المتجانسة المعادية (نورمان، 2024).

علاوة على ذلك، ربما تكون الأفكار التي تقوم عليها بعض مفاهيم القوة الجوية القديمة قد عفا عليها الزمن حاليًا وغير ذات جدوى، ذلك أن محور فكر القوة الجوية التقليدية يركز على تحقيق التفوق الجوي، وهو أمر لم يعد ممكنًا؛ حيث إن الزيادة الهائلة في أعداد المسيرات التجارية والعسكرية الصغيرة في ساحات القتال المعاصرة، بجانب المشاكل المتأصلة في مواجهة الصواريخ وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية، جعل الأسلوب التقليدي لاستخدام الطائرات المأهولة لتحقيق التفوق الجوي غير مجدي على الأغلب.

وفي ظل المفهوم الجديد لعقيدة التفوق الجوي، يتم طرح مجال فرعي جديد: مجال جوي يمتد من الأرض إلى أعلى عدة آلاف من الأقدام حيث تكون السيطرة عليه موضع نزاع دائمًا. ذلك أن معركة السيطرة على هذا المجال الفرعي ستتم بواسطة قوى أرضية؛ ولا يوجد دور للقوات الجوية - على ما يبدو بمفردها أيضًا، مثل الآخرين (جريكو وبريمر، 2024).

ثالثًا: من الناحية التنظيمية: تحول أساسي

فكرة تراجع أهمية القوات الجوية من حيث تحقيق التفوق الجوي تشير إلى ضرورة إحداث تغيير للقوات الجوية من الناحية التنظيمية؛ حيث تبدأ الطائرات المأهولة في احتلال مكان مركزي بجانب القنابل الانزلاقية وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية والصواريخ غير الموجهة وأنواع لا حصر لها من المسيرات؛ فالمجال الجوي دائمًا مكان مزدحم يرغب الجميع في تشاركه ولكن الوضع توسع بشكل كبير.

تحتاج القوات الجوية الآن إلى العمل في بيئة حيث يستطيع الغالبية ـ سواء الدول الكبيرة أو الصغيرة، والمنظمات من غير الدول، والمنظمات غير الحكومية، بل وحتى الأفراد ـ استخدام القوة الجوية بدرجات متفاوتة. تحتاج القوات الجوية إلى عمل إعادة تصور شامل. ويبدو أن فرع قوات الأنظمة غير المأهولة الجديد في أوكرانيا نذير بإحداث تغيير أساسي وليس لمرة واحدة (هاردي، 2024).

رابعًا: قطاع الدفاع: البساطة وسهولة الاستخدام

وأخيرًا، وبالنظر إلى قطاع الدفاع، فإن صعود القوة الجوية غير المتجانسة يفتح العديد من الفرص للابتكار. ومن المهم معرفة أن الابتكارات في الأنظمة غير المأهولة هي بطبيعتها أبسط في تحقيقها وبشكل عام أكثر يسرًا من حيث التكلفة مقارنة بالمركبات الجوية المأهولة. ومع ذلك، فإن الابتكار السريع هو سلاح ذو حدي!

في حرب روسيا في أوكرانيا، أصبحت الطائرات المسيّرة المطورة حديثًا متقادمة خلال بضعة أشهر حيث يتم ابتكار المضادات الحركية والإلكترونية بالسرعة نفسها (مولوي، 2024). يمكن أن تشهد العناصر التي تشكل القوة الجوية غير المتجانسة تغييرًا كبيرًا. من المستبعد أن تكون هذه القوة الجوية من النوع الذي يمكن الاعتماد عليه دون الحاجة إلى متابعة مستمرة، كما هو الحال مع القوة الجوية المتجانسة بطائراتها المأهولة طويلة العمر.

وفي هذا الصدد، قد يتم التركيز على تصميم صواريخ وطائرات مسيّرة مبسطة يمكن إنتاجها بكميات كبيرة بسرعة وبتكلفة منخفضة من مواد ومكونات متوفرة بسهولة. إن القدرة على زيادة القوة الجوية غير المتجانسة بسرعة لتلبية المتطلبات الإستراتيجية والتعبوية العاجلة تتطلب تبني مثل هذه الفلسفة الهندسية.

قد تكون استراتيجية إيران في تصدير القوة الجوية مفيدة؛ حيث تقوم إيران بتصدير صواريخ وقذائف وطائرات مسيرة مبسطة عمدًا إلى أولئك الذين لديهم قدرة محدودة على تصنيع وصيانة وتشغيل المعدات المعقدة، ويمتد هذا إلى تصميم المعدات التي يمكن للآخرين تصنيعها في ظل ظروف بدائية نسبيًا، كما يفعل حزب الله في لبنان (هينز، 2021). يؤدي هذ التبسيط أيضًا إلى تقليل التكاليف مما يسمح بالحصول على أعداد أكبر. تعمل روسيا، التي تنتج المسيرات الإيرانية من طراز شاهد على نطاق واسع، على تبسيط تصميمها، بهدف خفض تكلفة الوحدة من حوالي 375 ألف دولار أمريكي إلى حوالي 50 ألف دولار أمريكي (تيغلر، 2024).

بالرغم من ذلك فإن قبول عنصر البساطة يعني قبول أداء تشغيلي منخفض، بما في ذلك وجود مسيرات وصواريخ وقذائف ذات موثوقية أقل. ومع ذلك، فإن استخدام الشكل الأوليَّ من القوة الجوية لا يزال فعالاً، كما يتضح من نجاح الحوثيين في التسبب في اضطراب حركة السفن التجارية في البحر الأحمر.

أحد المجالات التي تتطلب الابتكار هو امتلاك القدرات اللازمة للدفاع بشكل شامل ضد القوة الجوية غير المتجانسة المكونة من مسيرات وصواريخ وقذائف؛ ذلك أن مواجهة الطائرات المسيّرة وحدها قد تتطلب أجهزة استشعار للإنذار، وأجهزة تشويش إلكترونية محمولة على الظهر وعلى المركبات، وأنظمة مدفعية، وصواريخ اعتراضية شديدة القتال ، وأجهزة تعمية بالليزر، كما يمكن مواجهة القوة الجوية غير المتجانسة من خلال نشر أعداد كبيرة من المضادات غير المتجانسة المتنوعة، لكن هذا نهج معقد ومكلف بطبيعته ويتطلب العديد من الأفراد المهرة ويشغلهم عن تنفيذ مهام أخرى.

من الناحية المثالية، ينبغي أن تكون الأنظمة الدفاعية قادرة على مواجهة العناصر المتعددة المختلفة للقوة الجوية غير المتجانسة، وليس فقط ضد نوع واحد من العناصر. تعتبر هذه المرونة مهمة نظراً لأن مثل هذه الأنظمة سيتعين نشرها على الأرجح تعبويًا في الخطوط الأمامية وفي عمق الوطن. هناك أيضًا إلحاح متزايد حيث إن الاستخدام المتزايد لأنظمة الملاجة الخالية من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقلل من فعالية تقنيات التشويش الإلكترونية الحالية. تقدم الأسلحة الموجهة الجديدة، مثل أنظمة الليزر عالية الطاقة وأنظمة النبض الكهرومغناطيسي، الكثير ولكنها تبدو حتى الآن غير متطورة من الناحية التقنية.

ستحتاج القوات الجوية في جميع أنحاء العالم إلى هذا التحول لمواجهة التحديات الاستراتيجية والعملياتية والتنظيمية وتلك المتعلقة بقطاع الدفاع التي يفرضها الظهور السريع للقوة الجوية غير المتجانسة. إن استخدام هذا الشكل الجديد من القوة الجوية من قبل أوكرانيا وروسيا وإيران وحزب الله والحوثيين وحماس يؤكد أن هذا هو العصر الذي يمكن فيه للجميع تقريبًا الآن القيام بعمليات جوية غير متجانسة وواسعة النطاق ومنسقة جيدًا، فلم تعد القوة الجوية مصدرا نادرًا أو محدودًا؛ فالقوات الجوية على مستوى العالم تحتاج الآن إلى إحداث هذا التحول.

المراجع:

  1. Agencies. (2024, October 1). As Israel braces for a 2nd attack, what are Iran’s missile and drone capabilities? The Times of Israel. https://www.timesofisrael.com/as-israel-waits-for-a-2nd-attack-what-are-irans-missile-and-drone-capabilities/
  2. Meduza. (2024, March 22). Russia has attacked Ukraine's energy infrastructure. The attack was carried out on the Dnieper dam. Kharkov was left without light. Meduza. https://meduza.io/feature/2024/03/22/rossiya-atakovala-energeticheskuyu-infrastrukturu-ukrainy-udar-nanesen-po-plotine-dneproges-harkov-ostalsya-bez-sveta
  3. Galamison, M. S. and Petersen, M.B. (2023, Fall)). Failures of the Russian Aerospace Forces in Ukraine. Air & Space Operations Review, Vol.2, No.3. https://www.airuniversity.af.edu/Portals/10/ASOR/Journals/Volume-2_Number-3/Galamison_Petersen.pdf
  4. Noorman, R. (2024, March 27). The Return of the Tactical Crisis. Modern War Institute. https://mwi.westpoint.edu/the-return-of-the-tactical-crisis/.
  5. Grieco, K.A. and Bremer, M.K. (2024, Fall). Contesting The Air Littoral. ÆTHER: A Journal of Strategic Airpower and Spacepower, Vol. 3., No.3. https://www.airuniversity.af.edu/Portals/10/AEtherJournal/Journals/Volume-3_Number-3/Grieco_and_Bremer.pdf
  6. Hardie, J. (2024, June 21). Ukraine’s new Unmanned Systems Forces takes shape. FDD’s Long War Journal. https://www.longwarjournal.org/archives/2024/06/ukraines-new-unmanned-systems-forces-takes-shape.php.
  7. Molloy, O (2024). Drones in Modern Warfare: Lessons Learnt from the War in Ukraine. Australian Army Research Centre. https://researchcentre.army.gov.au/sites/default/files/241022-Occasional-Paper-29-Lessons-Learnt-from-Ukraine_2.pdf
  8. Hinz, F. (2021). Missile Multinational: Iran’s New Approach to Missile Proliferation. IISS: The International Institute for Strategic Studies. https://www.iiss.org/globalassets/media-library---content--migration/files/research-papers/irans-new-approach-to-missile-proliferation.pdf
  9. Tegler, E. (2024, February 7). $375,000 - The Sticker Price for an Iranian Shahed Drone. Forbes. https://www.forbes.com/sites/erictegler/2024/02/07/375000the-sticker-price-for-an-iranian-shahed-drone/?sh=4adb4a5d56d6.

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

ذات صلة المنشورات

An error has occurred. This application may no longer respond until reloaded. Reload 🗙