لم يعد ميدان القتال المعاصر محصوراً على سطح الأرض، بل امتد ليشمل شبكة تحت الأرض معقدة، حيث يستغل الأطراف المعادية هذه المساحات المخفية ببراعة لتقويض التفوق التكنولوجي التي تتمتع بها عادة القوات التقليدية.منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، وفرت إستراتيجيات الأنفاق تحت الأرض للجهات العسكرية الأضعف وسيلة فعّالة لمواجهة التفوق العسكري التقليدي.[1]
ويبرز هذا الاتجاه بوضوح في منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت شبكات الأنفاق تحت الأرض عنصراً لا غنى عنه في تكتيكات الحرب الهجينة التي تستخدمها جهات ومنظمات غير حكومية مثل حركة حماس وحزب الله والحوثيين. فهذه الشبكات ليست مجرد بقايا من حروب الحصار، بل هي أصول عسكرية متعددة الوظائف صُممت للإخفاء والقدرة على الصمود والخداع الإستراتيجي. ورغم أنها تشكل جزءًا واحداً فقط من عقائد هجينة أوسع، فإن البنى التحتية تحت الأرض تمكّن القوات غير المتكافئة اليوم من إسقاط القوة، والبقاء في مواجهة الهجمات عالية التقنية، وتعطيل وتيرة الحملات العسكرية التقليدية.[2]
الحرب تحت الأرض عبر العصور: من الفيت كونج إلى حماس وحزب الله والحوثيين
من تكتيكات الحصار الرومانية والعثمانية إلى التفجيرات الكبيرة في معركة ميسين عام 1917 في الحرب العالمية الأولى، وأنظمة أنفاق الفيت كونج في حرب فيتنام، لعبت الحرب تحت الأرض أدواراً هجومية ودفاعية على حدٍ سواء عبر التاريخ. امتدت أنفاق "كو تشي" التابعة للفيت كونج لمسافة تصل إلى 320 كيلومتراً، وأدت وظائف متعددة أثناء القتال؛ فقد استُخدمت كمخابئ، ومسارات اتصال وإمداد، ومستشفيات سرية، ومخازن طعام وسلاح، وأماكن معيشة للعديد من مقاتلي الشمال الفيتناميين. كانت هذه الأنفاق حاسمة في تمكين مقاتلي "جبهة التحرير الوطنية" من الحفاظ على وجود كبير قرب سايجون، مما كان له دور محوري في مقاومتهم للقوات الأمريكية وقوات جيش جمهورية فيتنام الجنوبية.
إن استمرار أهميتها حتى اليوم يؤكد حقيقة أساسية: الحرب تحت الأرض لا تتحدد بتكنولوجيا معينة، بل بقدرتها على تقويض فاعلية القوة المتفوقة من خلال الإخفاء والمفاجأة والقدرة على التكيُّف. وتعد شبكة أنفاق حماس التي يزيد طولها عن 450 ميلاً، والمعروفة باسم "مترو غزة"، أفضل مثال حديث على الحرب تحت الأرض. تستخدم حماس هذه الأنفاق للقيادة والسيطرة، وكذلك للتهريب، وتنفيذ الكمائن، واحتجاز الرهائن.وغالباً ما تُدعم هذه الأنفاق بالتحصينات، وتُفخخ، وتُبنى عمداً تحت البنية التحتية المدنية، ليس فقط لحماية المقاتلين من الغارات الجوية الإسرائيلية، بل أيضاً لتعقيد قواعد الاشتباك لدى العدو.[3] وفي صراع أكتوبر 2023، ورغم التفوق الجوي الإسرائيلي واستخدام الذخائر الموجهة بدقة، مكّنت هذه الأنفاق مقاتلي حماس من مواصلة العمليات داخل عمق الأراضي الإسرائيلية، مما أظهر قدرة الشبكات الجوفية على إعادة تشكيل آليات إدارة ساحة المعركة.
أما أنظمة أنفاق حزب الله على طول الحدود اللبنانية–الإسرائيلية فهي أقل شهرة، ولكنها لا تقل أهمية من الناحية الإستراتيجية. واستلهم الحزب تصميمها جزئياً من الهندسة الكورية الشمالية، حيث توفر المخابئ المنحوتة في الصخور والأنفاق العابرة للحدود قدرة عالية على الصمود والتنقل. وقد كشفت عملية "درع الشمال" عام 2018، والتي دمرت عدة أنفاق لحزب الله، عن قدرة مثل هذه البنى التحتية على البقاء مخفية لفترات طويلة حتى أمام دولة كإسرائيل التي تمتلك قدرات متقدمة في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR).[4]
وفي اليمن، حوّل الحوثيون التضاريس الجبلية للبلاد إلى حصن سري تحت الأرض. ومنذ عام 2022، وسّعوا ما يسمونه "مدناً عسكرية تحت الأرض" تضم مقرات قيادية، ومصانع صواريخ، ووحدات رادار، ومنشآت إنتاج الطائرات المُسيرة. تقع هذه المواقع غالباً على عمق يتراوح بين 7 و10 طوابق تحت الأرض، ومخفية تحت مبانٍ عادية. وبمساعدة خبراء من إيران وحزب الله، بنى الحوثيون أنظمة تحت الأرض مكنتهم من الصمود لسنوات أمام الغارات الجوية للتحالف، وفي الوقت ذاته تنفيذ هجمات بالغة التعقيد، بما في ذلك استهداف السفن التجارية مؤخراً في البحر الأحمر.[5]
رؤية نفقية(تحت أرضية): المزايا التكتيكية والانعكاسات الإستراتيجية للحرب تحت الأرض
تغيِّر الشبكات تحت الأرض بيئة العمليات العسكرية بطرق سرية ومعقدة؛ فهي تحدّ من فعالية أدوات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع مثل الطائرات المُسيَّرة والأقمار الصناعية، وتقلل من جدوى الضربات الجوية، وتجبر القوات التقليدية على القيام بعمليات برية بطيئة ومرهقة. تتيح المرافق تحت الأرض استمرار القيادة والسيطرة، وتنفيذ الكمائن والانسحاب عبر طرق مخفية، والحد من العديد من المزايا الرئيسية — مثل السرعة والدقة والوعي الميداني — التي تعتمد عليها الجيوش الحديثة.[6]
كما تُشكل هذه الشبكات أساساً للإستراتيجيات الهجينة. فحماس، على سبيل المثال، تستخدم الأنفاق لحماية منصات إطلاق الصواريخ والمقاتلين الذين يخرجون لفترات وجيزة للهجوم ثم يختفون. وتمنح الأنفاق حزب الله قدرة على إعادة الانتشار السريع وإحداث ضغط نفسي على المجتمعات الحدودية الإسرائيلية. أما الحوثيون، فتخدمهم الأنفاق كملاجئ وخطوط إمداد حيوية، مما يسمح لهم بمواصلة العمليات تحت القصف ونقل الأسلحة والمؤن.[7]
وبخلاف المنشآت الثابتة فوق الأرض، فإن الأنفاق يصعب تحديد مواقعها ورسم خرائطها وتدميرها، مما يجبر الجيوش التقليدية إما على خوض عمليات برية محفوفة بالمخاطر أو القبول بدرجة من الغموض الإستراتيجي، وكلا الخيارين يصب في مصلحة الجهة التي تعمل من تحت الأرض. وتتيح الحرب تحت الأرض للجماعات المتمردة "تشكيل" ساحة المعركة من الأسفل، والتحكم في توقيت ومكان الاشتباكات، ومنع العدو من تحقيق انتصارات حاسمة.
يفرض القتال تحت الأرض تحديات فريدة حتى على أكثر الجيوش تقدماً من الناحية التكنولوجية. تتسم العمليات تحت الأرض بقتال قريب في بيئات مظلمة، وقليلة الأكسجين، ومليئة بالفخاخ المتفجرة. الاتصالات محدودة، ونظام تحديد المواقع العالمي GPS غير فعَّال، والتكتيكات المعتادة تنهار في الممرات الضيقة التي تسير فيها القوات في صف واحد. كما أن الضغط النفسي، ورهاب الأماكن المغلقة، والحرمان الحسي، وخطر العبوات الناسفة المخبأة، تضعف حتى صفوف القوات الخاصة.[8]
وفي غزة والموصل والرقة، أصبح واضحاً أن شبكات الأنفاق تطيل أمد الحملات العسكرية، وتزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار في أعقاب القتال، وتجبر الجيوش على تكبد خسائر أكبر، كما تُحدث ما يُعرف بـ "كسر العقيدة العسكرية"، حيث تضطر القوات التقليدية للتخلي عن أساليبها المفضلة وتتبني أساليب أبطأ وأكثر خطورة، غالباً مع مردود عملياتي محدود.[9]
جرذان الأنفاق والتكنولوجيا: كيف تواجه الجيوش التقليدية العمليات تحت الأرض
يتطلب التصدي لتهديد الأنفاق نهجاً مُتعدد المستويات. تتمثل إحدى الحلول التكنولوجية الرئيسية في أنظمة كشف الأنفاق، مثل رادار اختراق الأرض (GPR)، وأجهزة الاستشعار الزلزالية، وأجهزة الحث الكهرومغناطيسي. ورغم التطور الكبير في هذه التقنيات، فإن استخدامها يظل مقيداً بعوامل التضاريس والتكلفة وصعوبة تفسير البيانات المعقدة للبيئات تحت الأرض.[10]
كما يجب إعادة صياغة التدريب على القتال في المناطق المبنية ليشمل العمليات تحت الأرض، بما في ذلك تدريب القوات على تطهير الأنفاق، والقتال القريب في المساحات الضيقة، والتحمل النفسي المطلوب للعمل تحت الأرض. وتُعد الوحدات المتخصصة، مثل وحدة "جرذان الأنفاق" التابعة للجيش الأمريكي في فيتنام، أو وحدة "يهلوم" الإسرائيلية في الوقت الحاضر، نماذج لكيفية بناء الجيوش لقدرات قتالية في البيئات السرية تحت الأرض.[11]
وهنا يبرز استخدام الروبوتات والطائرات المسيرة كجبهة واعدة في هذا المجال. فالروبوتات الأرضية المجهزة بتقنيات التصوير الحراري، ونظام LIDAR (كشف الضوء وتحديد المدى)، وأجهزة الاستشعار الكيميائي، يمكنها دخول الأنفاق التي تُعد شديدة الخطورة على البشر. أما الطائرات المسيرة الصغيرة، فيمكنها رسم خرائط للممرات تحت الأرض واكتشاف المتفجرات، رغم أن البيئات المحرومة من إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تحدّ من فعاليتها. وتُستخدم المنصات الروبوتية والطائرات المسيرة — مثل الطائرات الرباعية المروحيات الإسرائيلية Lanius أو أجهزة الرمي الأمريكية Throwbots — حالياً في مهام رسم الخرائط، والاستطلاع، وحتى إبطال مفعول المتفجرات داخل الأنفاق. وتساهم هذه الأدوات في تقليل تعرض الجنود للخطر، وتوفير الوعي الميداني في بيئات محرومة من إشارات نظام تحديد المواقع العالمي GPS.[12]
وتجري حالياً دراسة وتطوير إستراتيجيات أخرى لمكافحة الأنفاق. فعلى الصعيد التاريخي، تم استخدام إغراق أنفاق العدو بالمياه كتكتيك عسكري، لكن المحاولات الأخيرة التي قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي لإغراق أنفاق حماس بمياه البحر حققت تأثيراً محدوداً للغاية. فقد استغرق الأمر أسابيع لملء حتى أصغر الأنفاق، مع تسرب المياه في كثير من الأحيان عبر البطانة المسامية أو من خلال فتحات تصريف مدمجة.
وقد ثبت أن الإغراق يستغرق وقتًا طويلًا ويعد غير فعّال إلى حد كبير كأسلوب أساسي لإبطال فاعلية شبكات الأنفاق الواسعة.[13]
وغالباً ما يكمن التحدي المستمر الذي تفرضه الأنفاق ليس في الفجوات التكنولوجية، بل في سوء التقدير الإستراتيجي. فقبل عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية عام 2014، بدا أن مُتخذي القرار الأمني الرئيسيين لم يكونوا على دراية كاملة بحجم تهديد أنفاق حماس. وبالمثل، افتقرت القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى عقيدة متكاملة للحرب تحت الأرض، مما سمح لأنظمة أنفاق تنظيم داعش بالتوسع تحت المدن الكبرى. كما يفشل القادة السياسيون في كثير من الأحيان في تخصيص الموارد أو الاهتمام الكافي للتهديدات التي يُنظر إليها على أنها هامشية، حتى تتحول إلى مفاجآت إستراتيجية.[14]
ولا تقتصر الحرب تحت الأرض على غزة أو جنوب لبنان، بل تمتد إلى مسارح عمليات جديدة. إن ضعف الاستثمار في مجالات الكشف، والتدريب، وتحليل التهديدات الهجينة، يهدد بحدوث جمود إستراتيجي. ويتعين على مطوري السياسات دمج الوعي بالتهديدات تحت الأرض ضمن التخطيط الدفاعي الشامل، ولا سيما في المناطق المبنية والجبلية أو المناطق المعرضة للتمرد.
إعادة التفكير في ميدان المعركة
لا تعد الحرب تحت الأرض تكتيكاً هامشياً، بل هي مجال ديناميكي ذو أهمية إستراتيجية. تمكّن الشبكات تحت الأرض الجهات غير الحكومية من الصمود، وتوجيه الضرباتٍ غير متوقع، ومواجهة الجيوش النظامية على أرضها. إنها تشكل تهديداً مادياً وخللاً عقائدياً في آن واحد، مما يجعل العديد من نقاط القوة العسكرية التقليدية بلا جدوى.
وتتطلب مواجهة هذا التهديد ما هو أكثر من القوة الغاشمة؛ إذ تستلزم استجابات قائمة على المعلومات الاستخبارية، ومتكاملة تكنولوجياً، ومرنة عقائدياً. ومع تعمّق الصراع الهجين في الشرق الأوسط وخارجه، لم يعد الخط الأمامي للمعركة محدداً بالبر والجو والبحر فقط، بل أصبح يشمل أيضاً الأرض التي تقع تحت أقدامنا.
بيان إخلاء المسؤولية:
الآراء والأفكار الواردة في سلسلة منشورات "رؤى وآراء" تعبر عن وجهات نظر كتّابها فقط، ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف مركز ربدان للأمن والدفاع أو أي من الجهات التابعة له أو أي جهة حكومية. يُنشر هذا المحتوى لأغراض إعلامية، ويعكس الرؤى الشخصية للمؤلفين حول مواضيع متنوعة تتعلق بالأمن والدفاع.
[1] Gore, Punit Shyam, ‘The Emerging Relevance Of Subterranean Warfare’, March 8, 2024, Bharat Shakti, The Emerging Relevance Of Subterranean Warfare - Bharat Shakti
[2] Ruthven, Sara, ‘Iran's proxies could go 'underground' to gain new advantage, nominee for Centcom chief says’, June 24, 2025, The National, Iran's proxies could go 'underground' to gain new advantage, nominee for Centcom chief says | The National
[3] Knudson, Jacob, ‘What to know about Hamas' tunnel system beneath Gaza’, January 17, 2024, Axios, Gaza's underground tunnels: What to know as Israel-Hamas war rages
[4] Bassam, Leila and James Mackenzie, ‘Hezbollah's tunnels and flexible command weather Israel's deadly blows’, Reuters, September 27, 2024, Hezbollah's tunnels and flexible command weather Israel's deadly blows | Reuters
[5] Yemen Monitor, ‘Exclusive: Hidden Deep Underground – The Houthis’ Most Secret Warehouses and Factories’, October 30, 2024, Exclusive: Hidden Deep Underground - The Houthis' Most Secret Warehouses and Factories - Yemen Monitor
[6] Richemond-Barak, D., & Voiculescu-Holvad, S. (2023), ‘The Rise of Tunnel Warfare as a Tactical, Operational, and Strategic Issue’, Studies in Conflict & Terrorism, 1–20. https://doi.org/10.1080/1057610X.2023.2244191
[7] Harrison A., ‘Underground Warfare. By Daphné Richemond-Barak. New York, New York: Oxford University Press, 2018. Pp. xxii, 296. Index’, American Journal of International Law. 2020;114(1):178-183. doi:10.1017/ajil.2019.78
[8] Richemond-Barak, D., & Voiculescu-Holvad, S. (2023), ‘The Rise of Tunnel Warfare as a Tactical, Operational, and Strategic Issue’, Studies in Conflict & Terrorism, 1–20. https://doi.org/10.1080/1057610X.2023.2244191
[9] Springer, Paul J. ‘Fighting under the Earth: The History of Tunneling in Warfare’, Foreign Policy Research Institute, April 23, 2015, Fighting Under the Earth: The History of Tunneling in Warfare - Foreign Policy Research Institute
[10] The Economist, ‘How to detect the enemy when they are underground’, June 24, 2021, How to detect the enemy when they are underground
[11] Head, William, ‘How “Tunnel Rats” Fought the Viet Cong in Underground Tunnels in Vietnam’, historynet, June 3, 2023, The Enemy Below the Earth: The Viet Cong Utilized a Vast Network of Tunnels to Fight the Enemy
[12] Baraniuk, Chris, ‘Swarms of Mini Robots Could Dig the Tunnels of the Future’, WIRED, August 11, 2022, Swarms of Mini Robots Could Dig the Tunnels of the Future | WIRED
[13] Lawal, Shola, ‘How Israel’s flooding of Gaza’s tunnels will impact freshwater supply’, Aljazeera, February 3, 2024, How Israel’s flooding of Gaza’s tunnels will impact freshwater supply | Israel-Palestine conflict | Al Jazeera
[14] Spencer, John W. ‘Facing Our Underground Nightmares: Casting Light on the Subterranean Fight’, Association of the United States Army, August 20, 2019, Facing Our Underground Nightmares: Casting Light on the Subterranean Fight | AUSA