تطور الصناعات الدفاعية في تركيا: دوافعها وصلتها بالسياسة الخارجية

لقد شكلت الإستراتيجية الصناعية الدفاعية لتركيا جزءًا لا يتجزأ من تنامي حضورها وموقفها الحازم في السياسة الإقليمية والدولية. وخلال العقد الأخير، حققت تركيا خطوات نوعية نحو تطوير صناعتها الدفاعية المحلية، وبلغت مستوى كبيراً من الاكتفاء الذاتي، كما برزت كأحد المصدّرين الرئيسيين للأسلحة، لا سيما في بعض الأنظمة المتخصصة. ومع تصاعد التهديدات المباشرة في البيئة الأمنية العالمية والإقليمية والدعوات المتزايدة لإعادة التسلح، باتت الصناعة الدفاعية التركية قادرة ليس فقط على تلبية احتياجاتها الوطنية، بل أيضاً على التحول إلى مصدر للسلاح، مما منح تركيا موقعاً دبلوماسياً متميزاً تجاه حلفائها الغربيين والدول الأخرى.

الدوافع وراء تطوير الصناعة الدفاعية التركية

لقد كان تطوير الصناعة الدفاعية المحلية مدفوعاً أساساً بالتهديدات، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاعتماد على القوة العسكرية لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وهو ما يُعد عنصراً جوهرياً في الثقافة الإستراتيجية التركية[1] . لقد أدى تصاعد الإحساس بالتهديدات الخارجية والداخلية إلى اتجاه المؤسسة الأمنية التركية نحو الإبقاء على جيش وأجهزة أمنية كبيرة، ما أعطى مبرراً لتخصيص ميزانية ضخمة للمشتريات العسكرية. [2] وفي تسعينيات القرن الماضي، بينما مرّ العديد من شركائها عبر الأطلسي بمرحلة تفكيك صناعاتهم الدفاعية وخفض ميزانياتهم العسكرية عقب الحرب الباردة، أطلقت تركيا برامج للتحديث والتسلح العسكري بمليارات الدولارات. وبين الحين والآخر، استفادت أنقرة مما يشبه "عائد السلام" ولجأت إلى أدوات القوة الناعمة كأداة في سياستها الخارجية، إلا أن التزامها بالقوة العسكرية ظل ثابتاً. وفي إطار سعيها لتلبية متطلبات عمليات مكافحة الإرهاب في الداخل والتعامل مع التحديات المنبثقة من بؤر التوتر الإقليمية، لجأت تركيا إلى اقتناء مجموعة واسعة من الأنظمة المرتبطة بالحروب غير المتكافئة والتقليدية على حد سواء. [3]

إن الصناعة الدفاعية التركية مدفوعة أيضًا بعامل الثقافة الإستراتيجية، إذ إن سعي البلاد وراء الاستقلالية الإستراتيجية وعلاقتها المعقدة مع الغرب قد تركا أثرًا فريدًا على مسار سياسات التسلح والتصنيع الدفاعي خلال العقود الأخيرة. فقد اتسمت علاقة تركيا مع المجتمع الأطلسي تاريخيًا بالتناقضات على المستويين الثقافي والسياسي. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ساعد انخراط تركيا في المعسكر الغربي على تأمين نفسها والوصول إلى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي والناتو. وقد كان للوصول إلى أنظمة تسليح متقدمة، مثل مشروع المقاتلة F-16 المشترك في ثمانينيات القرن الماضي، دور محوري في إحداث تحول في قطاع الدفاع التركي. [4] غير أن ذلك عزز أيضًا من حالة التبعية وأعاق تطور برامج التسليح المحلية الحقيقية. كما أن الاحتكاكات السياسية والدبلوماسية المتكررة بين تركيا وشركائها الغربيين التقليديين كانت تذكيرًا دائمًا بكلفة هذه التبعية. لقد شكّل خطاب جونسون عام 1964، الذي حذّر تركيا من التدخل في قبرص، والتجربة المريرة المتمثلة في الحظر الغربي على السلاح عام 1974 عقب تدخل الجيش التركي في قبرص، نقطتي تحول مهمتين دفعتا أنقرة إلى إطلاق برامج تهدف إلى تطوير قدرات مستقلة لضمان الاعتماد على الذات. كما أن عمليات الحظر اللاحقة، سواء المعلنة أو غير المعلنة، وتردّد الحلفاء الغربيين في تصدير أسلحة متطورة إلى تركيا بحجة سجلّها في حقوق الإنسان وسياساتها في مكافحة الإرهاب، قد عززت من تصميمها على المضي في هذا المسار. كما عززت الحظر الإضافي، سواء المعلن أو غير المعلن، وتردد الحلفاء الغربيين في تصدير الأسلحة المتقدمة لتركيا بسبب سجلها في حقوق الإنسان وسياسات مكافحة الإرهاب، عزيمة البلاد على تطوير صناعتها الدفاعية. وقد زادت هذه الدوافع نظراً لأن الإجراءات الغربية جاءت في أوقات حرجة، مثل الحاجة للمروحيات الهجومية خلال مواجهة حزب العمال الكردستاني في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والحاجة لأنظمة الدفاع الجوي في 2015 لمواجهة صواريخ داعش في المحافظات الجنوبية.

وكونها قوة إقليمية، لعب سعي تركيا نحو الاستقلالية الإستراتيجية[5] دوراً محورياً في تحديد معالم سياساتها الأمنية والدفاعية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ومع تباعد أولويات تركيا عن حلفائها عبر الأطلسي، اتجهت أنقرة إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية في مجال التسلح وعمليات الشراء الدفاعية. ففي الوقت الذي كان شركاؤها الغربيون ينعمون بما يُعرف بـ"عائد السلام" بعد اختفاء التهديد السوفييتي، كانت تركيا ما تزال ترى نفسها بمثابة "جزيرة" محاطة بمصادر عدم الاستقرار. لقد أسهمت الحرب ضد إرهاب حزب العمال الكردستاني (PKK)، وعدم الاستقرار الإقليمي الناجم عن الحروب الأهلية في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، فضلًا عن النزاعات الثنائية المستمرة مع جيرانها، في دفع تركيا إلى الحفاظ على مستويات مرتفعة من الإنفاق الدفاعي، وتحديث منصاتها العسكرية القائمة، واقتناء أنظمة تسليح متطورة لضمان أمنها داخلياً وخارجياً. وقد استلزم ذلك أسلحة قادرة على مواجهة التهديدات غير المتماثلة من الجهات غير الحكومية (مثل معدات المراقبة الليلية) والتهديدات بين الدول (مثل أنظمة الصواريخ والدبابات). وقد تسارعت مساعيها نحو التوطين والتصنيع الدفاعي المحلي نتيجة ميل الغرب إلى عزل شريكهم في الناتو من خلال منع حصوله على منصات محددة، وتقييد استخدامه لها، ورفض نقل التكنولوجيا أو إشراكه في برامج الإنتاج المشترك للأسلحة. إن تطوير برنامج الطائرات المسيّرة، وبرنامج المروحيات الهجومية، والدبابات القتالية الرئيسية جاء نتيجة مباشرة لهذا الواقع.

لقد كان تطور الصناعة الدفاعية التركية مدفوعًا أيضًا بعامل السياسة الحكومية. فبغية مواجهة تحدي الاعتماد على إمدادات السلاح الغربية، أعطت النخب السياسية والعسكرية في البلاد الأولوية لتطوير الصناعة الوطنية من خلال برامج المشتريات العامة الموجهة أو مبادرات تمويل جديدة، مثل صندوق دعم صناعة الدفاع الذي أُنشئ عام 1985 لتمويل برامج التسلح من موارد محلية يتم توفيرها عبر مخصصات من الموازنات الوطنية، والإيرادات الضريبية، والتبرعات. كما شملت الأدوات السياسية الأخرى التمويل المُيسَّر، وتخصيص الأراضي، والإعفاءات الضريبية، تحفيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتسهيل الوصول إلى أسواق التصدير عبر المبادرات الدبلوماسية[6] . وبذلك أصبح صنع السياسات الدفاعية محركاً رئيسياً في تمكين التوسع في القدرات العسكرية التركية في المنصات والأسلحة البرية والجوية والبحرية والإلكترونية، فضلاً عن تعزيز البحث والتطوير والابتكار التكنولوجي. وقد جرى تنظيم العمل في هذا المجال من خلال رئاسة الصناعات الدفاعية، وهي الجهة المسؤولة عن المشتريات، والتي أُعيد هيكلتها بصيغتها الحالية في إطار الانتقال إلى النظام الرئاسي للحكم في عامي 2017-2018. [7] ومن خلال تنوع وعمق منصات إنتاجها المحلية، استطاعت تركيا أن تفرض حضورها على الساحة الدولية، وأن تمضي قدماً نحو تطوير منصات جديدة وأكثر طموحاً، مثل الطائرات من الجيل الخامس. [8]

كانت الأجندة الوطنية (البُعد المحلي) هي المحرك الرابع للصناعة الدفاعية المحلية في تركيا. فمنذ سبعينيات القرن الماضي تبنّت تركيا سياسة تهدف إلى التوطين والتأميم الصناعي في قطاع الدفاع، لكن هذا التوجه تسارع بشكل ملحوظ بعد عام 2002 مع صعود حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان. [9] ويُعَدّ عام 2004 نقطة تحول محورية في مسار الصناعة. ففي البداية، ألغت حكومة العدالة والتنمية برامج تحديث عسكرية بمليارات الدولارات، إضافةً إلى صفقات شراء كانت مرتقبة منذ التسعينيات، مثل المروحيات والدبابات القتالية وأنظمة الإنذار المبكر (AWACS) وغيرها من الأنظمة الكبرى، والتي تعثرت بسبب مشكلات في الإنتاج والتوريد والتمويل. ثم وافقت الحكومة في مايو 2004 على إعادة هيكلة شاملة لمجموعة واسعة من المشاريع الدفاعية المعلّقة، بحيث أصبح نقل التكنولوجيا والمساهمة المحلية بمثابة الأساس للعطاءات المستقبلية[10] . وكانت الفكرة الجوهرية وراء هذا التغيير في الأولوية هي الارتقاء بالقاعدة التكنولوجية للصناعة المحلية عبر الانتقال من مرحلة الإنتاج المشترك بموجب تراخيص أجنبية إلى مرحلة التصميم والإنتاج بواسطة الشركات المحلية، من خلال التعاون مع شركاء خارجيين. [11] وقد أدى ذلك إلى إحداث زخم إضافي للنمو والتكامل المتبادل بين الشركات التركية، مما مهّد الطريق أمام صعودها كلاعبين مؤثرين على الساحة الدولية.

لا يمكن تناول دعم حزب العدالة والتنمية لسياسة التوطين بمعزل عن أجندته السياسية الداخلية؛ إذ كان تعزيز الصناعة الدفاعية جزءًا أساسياً من جهود الحزب لإعادة تشكيل الأسس السياسية والاقتصادية للدولة من خلال تقوية نفوذ المجموعات الاقتصادية المقرّبة منه. [12] وقد أُدرجت عملية توطين الصناعة الدفاعية ضمن المنصة السياسية للحكومة تحت شعار "محلي ووطني" (yerli ve milli)، وهو ما جعل قضايا الأمن والدفاع مكوّناً أصيلاً من مكونات السياسة الداخلية، لا سيما مع الانتقال إلى النظام الرئاسي خلال العقد الأخير.

لقد كان تحول الصناعة الدفاعية مدفوعاً أيضاً بعوامل اقتصادية وتكنولوجية، إذ ازدادت الصلة بين قطاع الدفاع والتحولات الاقتصادية الشاملة في البلاد، وقاعدتها الصناعية، ومنظومة البحث والتطوير. فقد أضعفت الأزمة الاقتصادية لعام 2001 المشاريع الدفاعية التي كانت بمليارات الدولارات، وكان للمنصة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية دور في فوزه بالانتخابات عام 2002.

وفي إطار خطط التحول الداخلي، حرصت حكومات الحزب على دعم التنمية الاقتصادية عبر زيادة الاستثمارات في الابتكار التكنولوجي، والأنشطة البحثية والتطويرية. وبعد عام 2018، ومع انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي الحالي، أعلنت الحكومة عن "المبادرة الوطنية للتكنولوجيا"[13] ، التي هدفت إلى تعزيز الاستقلالية الاقتصادية والتكنولوجية للبلاد عبر “تعظيم القدرة على تصميم وتطوير وإنتاج التقنيات والمنتجات الحيوية بالقدرات الوطنية”. وقد وسّعت هذه السياسة نطاق البيئة المواتية لتطوير الصناعة الدفاعية، من خلال توجيه الاستثمارات نحو الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتشجيع التعاون بين الجامعات، ومراكز الأبحاث، والحدائق التكنولوجية، والمؤسسات الخاصة. ونتيجة لذلك، قام الجيش التركي باقتناء عدد من الأنظمة عالية التقنية، مثل الطائرات المسيّرة (UAVs) وأنظمة الحرب الإلكترونية من موردين محليين، الأمر الذي أتاح له تحقيق درجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي.

كان الطلب الخارجي هو المحرك السادس لنمو قاعدة الصناعة الدفاعية في تركيا. وبحلول عقد 2010، بدأت الأسلحة المحلية المتطورة تُظهر فعاليتها في العمليات القتالية، سواء في عمليات مكافحة الإرهاب داخل البلاد أو لاحقاً في النزاعات في سوريا وليبيا وأذربيجان، مما جذب اهتمام المشترين. وقد جعلت سياسة أنقرة المرنة نسبياً تجاه صادرات الأسلحة المنتجات التركية خياراً مفضّلاً للدول التي واجهت صعوبات في الحصول على الأسلحة عبر قنوات أخرى، رغم اهتمام الدول الغربية وغير الغربية بها أيضاً. وقد سرّع الصعود السريع لتركيا كدولة مصدّرة للأسلحة من نمو الصناعة العسكرية وزاد من حجم الإنتاج، وهو ما أدى إلى اقتصاديات الحجم وخفض التكاليف الحدية أو الهامشية. [14] كما فازت الشركات الدفاعية التركية بعدة عقود لتحديث الأنظمة العسكرية القديمة في دول مختلفة، مثل شركة STM التركية التي فازت بعقد تحديث غواصات Agosta 90B الباكستانية، أو شركة Havelsan التي فازت بعقد تحديث نظام المراقبة الإلكترونية البحرية المتكامل لرومانيا. بمعنى آخر، كان نمو الصناعة العسكرية وتوسّع الأسواق التصديرية يعزّزان بعضهما البعض؛ فبالتوازي مع عوامل الدفع الناتجة عن التحولات الداخلية للبلاد، شكّل الطلب الخارجي عامل جذب رئيسياً للنمو الصناعي.

أخيراً، كان تطور برامج الأسلحة التركية مدفوعاً بالشراكات الدولية، إذ برز تنويع الشراكات الخارجية كعامل مهم لتيسير التحول الداخلي. وقد سهّل التعاون الإستراتيجي المستهدف مع بعض الدول تدفق الاستثمارات، ونقل التكنولوجيا، وترخيص الإنتاج، وتطوير وإنتاج المنتجات المشتركة، فضلاً عن الدخول إلى أسواق جديدة. وكان تنويع الشركاء الدوليين نتيجة طبيعية لسعي تركيا لتقليل اعتمادها الزائد على الولايات المتحدة. وباتت تركيا، مع إعطاء الأولوية لنقل التكنولوجيا، والإنتاج المشترك، وترتيبات التعويض (offset arrangements)، ورخص التصدير، قادرة على توجيه هذه العمليات بعيداً عن القيود الأميركية، في حين أصبح من الصعب على الشركات الأميركية الانضمام إلى عطاءات التحديث والمشتريات التركية بسبب لوائح التصدير الأميركية. وقد دفعت هذه المعطيات أنقرة إلى بناء روابط مع شركاء جدد لتقليل الاعتماد على واشنطن والحصول على نفس منصات الإنتاج بشروط أكثر ملاءمة. وفي نهاية المطاف، أتاح التعاون مع دول غربية مثل المملكة المتحدة وإيطاليا، أو مع دول ضمن النظام العسكري الغربي مثل قطر وكوريا الجنوبية، لصناعة الدفاع التركية الوصول إلى مكونات حيوية كان نقصها يعيق تطوير منصات إنتاج كبرى. ولا سيما أن الشراكات مع إيطاليا بشأن المروحيات الهجومية، وكوريا الجنوبية بشأن الدبابات القتالية الرئيسية، وأوكرانيا بشأن محركات الطائرات، كانت خطوات رئيسية لكسر الجمود في هذه الأنظمة.

تماشياً مع سعيها نحو الاستقلالية الإستراتيجية، اتبعت تركيا أيضاً سياسة متعددة المحاور بعيداً عن الالتزامات التقليدية للتحالف الأطلسي. [15] وقد فتح هذا النهج آفاقاً للتعاون مع فاعلين غير غربيين مثل روسيا والصين في مجالات المشتريات العسكرية وأنظمة الصناعة الدفاعية. فقد لعبت الصين، على سبيل المثال، دوراً هاماً في تطوير برامج الصواريخ، بينما اقتنت أنقرة أنظمة الدفاع الجوي S-400 من موسكو. وأدت هذه الروابط مع روسيا والصين إلى زيادة التوتر مع الشركاء الغربيين، مما أسفر عن استبعاد تركيا من برنامج الطائرة F-35 عام 2019 من قبل إدارة ترامب.

العلاقة بين الصناعة الدفاعية والسياسات الأمنية وآفاق المستقبل

كما تم التأكيد سابقاً، تطورت الصناعة الدفاعية بصورة وثيقة مع الاتجاهات العامة للسياسة الخارجية التركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتي أعيد صياغتها مؤخراً تحت شعار "القرن التركي".[16] وقد انعكس سعي تركيا نحو الاستقلالية الإستراتيجية والاكتفاء الذاتي في التسلح على التوجه العام لسياسة البلاد الخارجية خلال العقود الأخيرة، الرامي إلى تقليل الاعتماد على الحلف الغربي وفتح شراكات متعددة المحاور في المناطق المحيطة وما وراءها. [17] وكان التوسع في القدرات المادية للقوات العسكرية والأمنية التركية عاملاً هاماً مكنها من هزيمة إرهاب حزب العمال الكردستاني داخل الدولة والمشاركة بفاعلية في البؤر الإقليمية الساخنة. وسهّلت الطائرات المسيّرة وأشكال الحرب الإلكترونية الأخرى، التي استخدمت في النزاعات في سوريا وليبيا وأذربيجان، توجه أنقرة العسكري في السياسة الخارجية خلال السنوات الأخيرة. [18]

علاوة على ذلك، أسهم الابتعاد عن الاعتماد على حلف الناتو وصناعة الأسلحة الغربية في إقامة علاقات إستراتيجية جديدة مع قوى كبرى مثل روسيا والصين، والتي تم تعزيزها عبر برامج عسكرية مشتركة. وقد ساعدت سياسة تصدير الأسلحة دون شروط مسبقة على تعزيز شبكة التحالفات التركية، حيث توفر البلاد أنظمة سلاح ليس فقط للدول الصديقة مثل أذربيجان وباكستان، بل حتى في إفريقيا وآخراً في أمريكا اللاتينية. ومن خلال الجمع بين صادرات الأسلحة، والتدريب العسكري والمساعدات، والدبلوماسية الدفاعية، أكملت أنقرة أدوات نفوذها الناعم وأصولها الاقتصادية لبناء شراكات جديدة والتوغل إستراتيجياً في مناطق جديدة.

رغم الإنجازات الكبرى في مسار التوطين وتوسيع صادرات الأسلحة، يشير العديد من الخبراء إلى أن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل ليس واقعياً أو ممكناً بالنظر إلى العقبات التقنية والإستراتيجية. [19] وتستخدم الحكومة التركية التوطين كأداة دعائية لتفادي الانتقادات داخلياً وتبرير الاستثمارات في برامج عالية التكلفة، مع الإشارة إلى أن هناك حاجة لتحقيق تقدم جوهري في تحديث أسطول الطائرات المقاتلة، وقدرات الدفاع الجوي، وبرامج الصواريخ طويلة المدى.

على الرغم من العديد من الإنجازات منذ عام 2004، وخاصة في أنظمة الطائرات المسيّرة والمنصات البحرية، واجهت برامج الدبابات القتالية الرئيسية والمروحيات الهجومية العديد من العقبات والتأخيرات، ولم تقترب من الاكتمال إلا مؤخراً. وما زالت العديد من المنصات المحلية المتقدمة المعلن عنها على نطاق واسع في مراحل التصميم أو التطوير أو الاختبار، أو ليست محلية بالكامل بسبب الاعتماد المستمر على الشراكات الخارجية للحصول على مكونات حيوية مثل المحركات. ويجبر الاعتماد المستمر على الموردين الخارجيين تركيا على التعاون مع الولايات المتحدة وصناعة الدفاع الغربية.

وتجسد محاولات تطوير الطائرات المقاتلة الوطنية هذا المأزق التركي. فقد عملت تركيا منذ العقد 2010 على استبدال طائراتها من طراز F-16 بمقاتلة شبحية من الجيل الخامس. وبعد عدة منصات انتقالية، أطلقت برنامج KAAN في 2016، وسرّع استبعاد تركيا من برنامج F-35 في 2019 تطويره. ويجري حالياً اختبار النموذج الأولي لبرنامج KAAN، ومن المتوقع تسليم الأسطول للقوات الجوية التركية بعد عام 2028. وقد أبدت عدة دول مهتمة بتحديث أساطيلها القديمة اهتماماً ببرنامج KAAN، حيث وقعت إندونيسيا عقداً هذا الأسبوع لشراء 48 طائرة بمجرد أن يصبح النظام جاهزاً للعمل الكامل. [20] ومع ذلك، أثار الوقت اللازم لاستكمال الاختبارات ودخول مرحلة الإنتاج الكمي مخاوف بشأن قدرة القوات الجوية التركية على تلبية احتياجاتها التشغيلية بالنظر إلى أسطول F-16 القديم، مما اضطر أنقرة إلى البحث عن حلول مؤقتة، سواء عبر إعادة الانضمام إلى برنامج F-35، أو تحديث F-16 بالتعاون مع الولايات المتحدة، أو اقتناء مقاتلات Eurofighter Typhoon من الجيل الخامس، أو مزيج من هذه الخيارات، وكلها تؤثر على جدول أعمال التوطين. [21]

علاوة على ذلك، يحذر الخبراء من استدامة مسار صادرات الأسلحة التركية، مشيرين إلى عدد من العقبات المتبقية. [22] فلا يمكن اعتبار المكاسب الحالية في الصادرات أمراً مفروغاً منه نظراً لطبيعة الحروب وتغير منصات الأسلحة وظهور منتجين آخرين. فرغم المكانة المتخصصة لتركيا في الطائرات المسيّرة، التي تمثل جزءًا كبيراً من صادراتها، إلا أنها لم تحقق بعد هيمنة سوقية عالمية على أي منصة رئيسية أخرى. وبالمثل، لا تهيمن الشركات التركية بمفردها على أي سوق بعينه، رغم تصديرها إلى نحو 200 دولة أو إبرام عقود تدريب أو تحديث حول العالم. وبعبارة أخرى، يختار المشترون غالباً أنظمة محددة فقط، وحتى حلفاء مقربون مثل قطر أو أذربيجان لم تتحول بالكامل إلى الاعتماد على الصناعة التركية في منصات إنتاج كبرى، ناهيك عن كامل احتياجاتهم التسليحية.

لقد أكدت حرب روسيا وأوكرانيا، والصراع بين إسرائيل وحماس منذ أكتوبر 2023، والحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، أهمية القوة العسكرية في العلاقات الدولية الحديثة وضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي. ومع سعي أوروبا لإعادة التسلح، كما تجسد في قمة الناتو الأخيرة حيث اتفق الحلفاء على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى ما لا يقل عن 5% من دخلهم الوطني، تجد تركيا نفسها عند مفترق الطرق حيث ستلعب صناعتها الدفاعية دوراً حيوياً في علاقاتها مع العالم الغربي.


بيان إخلاء المسؤولية:

الآراء والأفكار الواردة في سلسلة منشورات "رؤى وآراء" تعبر عن وجهات نظر كتّابها فقط، ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف مركز ربدان للأمن والدفاع أو أي من الجهات التابعة له أو أي جهة حكومية. يُنشر هذا المحتوى لأغراض إعلامية، ويعكس الرؤى الشخصية للمؤلفين حول مواضيع متنوعة تتعلق بالأمن والدفاع.


[1] Şaban Kardaş, “Debating the Hard Power Turn in Turkish Foreign Policy,” Southeast European and Black Sea Studies 25, no. 1 (2025): 1–10.

[2] Merve Seren, “Turkey’s Military Spending Trend: A Reflection of Change in Defense Policy,” Insight Turkey 22 (September 2020): 183–214.

[3] Başar Baysal, “Evaluating the Advances and Challenges in Turkey’s Defence Industry: A Comparative Analysis,” Southeast European and Black Sea Studies 25, no. 1 (2025): 31–52.

[4] For an historical overview, see: Hüsnü Özlü, “The Foundation and Development of Turkey’s Defense Industry in the Context of National Security Strategy,” Perceptions 26, no. 2 (2021): 216–40.

[5] Şaban Kardaş “Quest for Strategic Autonomy Continues, or How to Make Sense of Turkey’s ‘New Wave,’” GMF On Turkey, November 28, 2011.

[6] Ayşe Özer, The Rise of the Turkish Defense Industry, (Ankara: Siyaset, Ekonomi ve Toplum Araştırmaları Vakfı, SETA Publications , 2019).

[7] See an insider’s account of this transformation provided by the President of Defense Insdustry, İsmail Demir, “Transformation of Turkish Defense Industry: The Story and Rational of the Great Rise,” Insight Turkey 22, no. Summer 2020 (2020): 17–40.

[8] Arda Mevlütoğlu, “The Future of Turkey’s Airpower: The Fifth Generation Challenge,” Insight Turkey 22, no. Summer 2020 (2020): 131–59.

[9] Merve Seren, “Politics, Industry and Academia: Examining Dynamics of Turkish Defense Industry’s Great Leap Forward in the Post- 2002 Era,” Bilig, no. 96 (Winter 2021): 93–119.

[10] Şaban Kardaş, “Turkey Cooperates with Korea to Develop a National Main Battle Tank,” Eurasia Daily Monitor, 5, no.151 (2008).

[11] Sıtkı Egeli et al., From Client to Competitor: The Rise of Turkiye’s Defence Industry, Research Paper (Center for Foreign Policy and Peace Research (CFPPR), 2024), https://www.iiss.org/research-paper/2024/05/from-client-to-competitor-the-rise-of-turkiyes-defence-industry/.

[12] Çağlar Kurç et al., “Balancing Aspiration and Reality: Autarky in Turkish Defence Industrial Policy,” Defence Studies 25, no. 2 (2025): 383–406.

[13] Mehmet Fatih Kacır et al., eds., Millî Teknoloji Hamlesi: Toplumsal Yansımaları ve Türkiye’nin Geleceği, 1. (Ankara: Türkiye Bilimler Akademisi Yayınları, 2022).

[14] For a comparative analysis of Turkey’s advances in production, research and development, and export relative to other rising exporters, see: Baysal, “Evaluating the Advances.”

[15] Şaban Kardaş and Özgür Ünlühisarcıklı, “Managing the US-Turkey Security Relationship: Structured Transactionalism within a Dual Framework,” Turkish Policy Quarterly 19, no. 4 (2021): 67–86.

[16] Hakan Fidan, “Turkish Foreign Policy at the Turn of the ‘Century of Türkiye’: Challenges, Vision, Objectives, and Transformation,” Insight Turkey 25, no. Summer 2023 (2023): 11–25.

[17] Murat Yeşiltaş, “Deciphering Turkey’s Assertive Military and Defense Strategy: Objectives, Pillars, and Implications,” Insight Turkey 22, no. Summer 2020 (2020): 89–114.

[18] Can Kasapoğlu, “Turkey’s Burgeoning Defense Technological and Industrial Base and Expeditionary Military Policy,” Insight Turkey 22, no. Summer 2020 (2020): 115–30.

[19] Baysal, “Evaluating the Advances.”

[20] “Indonesia Signs Contract with Turkey to Buy 48 KAAN Fighter Jets,” Reuters, 29 July 2025, https://www.reuters.com/world/asia-pacific/indonesia-signs-contract-with-turkey-buy-48-kaan-fighter-jets-2025-07-29/.

[21] “Turkey hopes for Progress on F-35 Jets after Trump Meeting, Erdogan Says” Reuters, 26 June 2025.

[22] Sıtkı Egeli et al., Adapting Security: The Intersection of Turkiye’s Foreign Policy and Defence Industrialisation, Research Paper (Center for Foreign Policy and Peace Research (CFPPR), 2024), https://www.iiss.org/research-paper/2024/06/adapting-security-the-intersection-of-turkiyes-foreign-policy-and-defence-industrialisation/.

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

أرسل منشورك

An error has occurred. This application may no longer respond until reloaded. Reload 🗙