ينظر إلى جرينلاند منذ فترة طويلة على أنها منطقة نائية وقليلة السكان إلا أنه كَبُر شأنُها وتعاظمت أهميتها الإستراتيجية بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة وتغير المناخ والمنافسة على موارد القطب الشمالي.[1] وتبرز أهمية جرينلاند على الأصعدة الجيوستراتيجية والاقتصادية والأمنية كمنطقة مهمة للقوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا والدول الأوروبية.[2] جرينلاند ليست مجرد كيان جغرافي، بل هي أيضاً نقطة ارتكاز جيوستراتيجية تؤثر على الدفاع وأمن الطاقة والمنافسة العالمية.
من التهميش إلى الاهتمام: الأهمية الجغرافية لجرينلاند
زادت كل من روسيا والصين من وجودهما في القطب الشمالي. وسيطرت روسيا بالفعل على ما يقرب من نصف ساحل القطب الشمالي، وأعادت إحياء القواعد السوفيتية القديمة، وشيدت قواعد جديدة، ونشرت أسلحة متقدمة في المنطقة. تعتبر موسكو القطب الشمالي بأنه مصلحة أساسية، خاصة وأن ذوبان الجليد يزيد من الأنشطة البحرية والطاقة.[3]
وعلى الرغم من عدم امتلاكها لأي أراض في القطب الشمالي، إلا أن الصين أعلنت أنها "دولة قريبة من القطب الشمالي" وبدأت بالمشاركة بشكل متزايد في الحوكمة والاستثمار في القطب الشمالي. واستثمرت الصين في البحث العلمي هناك وبنت كاسحات جليد جديدة ودخلت في شراكات مع روسيا.[4]
أما بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، فتعد جرينلاند حائط صد في وجه التعدي الإستراتيجي وحصناً منيعاً للحفاظ على الهيكل الأمني للقطب الشمالي.
تنبُع أهمية جرينلاند من موقعها. فهي جزء من خط جرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة (GIUK)، وتعتبر نقطة تفتيش بحرية مهمة حيث استخدمت كخط للمراقبة والدفاع البحري ضد التهديدات المحتملة القادمة من شمال المحيط الأطلسي. وخلال الحرب الباردة، استخدمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمراقبة السفن السوفيتية التي تمر عبر هذا الممر.
وتقع قاعدة بيتوفيك الفضائية (قاعدة ثول الجوية سابقا) في قلب الوجود العسكري الأمريكي في جرينلاند. تضم القاعدة الأمريكية محطة رادار رئيسية لقيادة دفاع الفضاء الجوي الأمريكية الشمالية (نوراد). وتلعب هذا المنشأة دورا حاسما في أنظمة الإنذار المبكر العالمية للصواريخ ومراقبة الفضاء والاتصالات.[5]
الطفرات المتزايدة: يذوب الجليد وتظهر الإمكانات الاقتصادية للجزيرة
بعيداً عن المجال الدفاعي، تمتلك جرينلاند إمكانات اقتصادية هائلة. ومع تزايد الطلب العالمي على المعادن الحيوية الضرورية للطاقة الخضراء وأنظمة الدفاع والتكنولوجيات المتقدمة، تمتلك جرينلاند كنزا غير مستغل.
تشير العديد من المسوحات الجيولوجية إلى وجود كميات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة Rees)) والمعادن المهمة الضرورية للتكنولوجيات الحديثة مثل السيارات الكهربائية العنفات الهوائية والهواتف الذكية. تمتلك جرينلاند كميات هائلة غير مستغلة من العناصر الأرضية النادرة واليورانيوم والزنك وخام الحديد والهيدروكربونات. ومع ارتفاع الطلب العالمي على هذه الموارد، يمكن لجرينلاند أن تصبح مورّداً لهذه الموارد وبديلاً عن الجهات الفاعلة المهيمنة عليها في الوقت الحالي.[6]
المنطقة الاقتصادية الخاصة بغرينلاند غنية بالمخزونات السمكية، وخاصة الروبيان وسمك القد. ومع تضاؤل إمدادات الأسماك العالمية، تصبح السيطرة على هذه المياه أحد الكنوز الاقتصادية والأمنية الغذائية على المدى الطويل أمراً مهماً.[7]
كما أصبح تغير المناخ فرصة إستراتيجية لأصحاب المصلحة في القطب الشمالي. يؤدي الذوبان المتسارع للجليد القطبي إلى فتح الطريق أمام الملاحة واستخراج الموارد والوصول إلى المناطق التي لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل. يمكن أن يؤدي ظهور طريق بحر الشمال (NSR)، على طول ساحل القطب الشمالي الروسي، إلى تقصير طرق الشحن بين آسيا وأوروبا لمدة تصل إلى أسبوعين أو 40٪ أقصر من طريق قناة السويس. وهذا من شأنه تعزيز المنفعة الإستراتيجية لموانئ القطب الشمالي وزيادة أهمية قرب موقع جرينلاند من هذه الممرات.[8]
ويعني هذا التحول أيضا أن الوعي بالمجال البحري والتحكم بممرات الشحن الجديدة أصبح أمرا حيويا. وفي هذا السياق، تعمل جرينلاند كحارس في المنطقة الشمالية ومركز لوجيستي للدول التي تسعى إلى السيطرة على طرق التجارة والطاقة الصاعدة في القطب الشمالي.
جرينلاند والخليج: لماذا تعد منطقة القطب الشمالي مهمة لدول مجلس التعاون الخليجي
مع تغير ديناميكيات القوة العالمية وتغير المناخ في أقصى شمال العالم، تبرز جرينلاند والقطب الشمالي الأوسع كمناطق إستراتيجية مهمة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي.
أصبحت الطرق البحرية الجديدة، بما في ذلك طريق بحر الشمال (NSR) والممر العابر للقطب، صالحة للملاحة بشكل متزايد خلال أشهر الصيف. وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة الإمارات العربية المتحدة وقطر، التي استثمرت بشكل كبير في الخدمات اللوجستية والموانئ العالمية، فإن فتح الممرات في بحر القطب الشمالي يقدم ثورة محتملة في التجارة البحرية.[9] قد يؤدي تقليل وقت الشحن وتكاليف الوقود إلى تعزيز القدرة التنافسية لعمالقة الخدمات اللوجستية التي تدعمها الصناديق السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي، مثل موانئ دبي العالمية ومجموعة موانئ أبوظبي.
كما أن جرينلاند غنية بالعناصر الأرضية النادرة واليورانيوم والمعادن الإستراتيجية الأخرى التي تعد ضرورية للتكنولوجيات الحديثة - مثل العنفات الهوائية والمركبات الكهربائية (وهي ما يركز عليه بشكل رئيسي صندوق الاستثمارات العامة السعودي وشركة مبادلة الإماراتية) وأنظمة الصواريخ (حصلت شركة الدفاع المحلية إيدج جروب الإماراتية على عقد بقيمة 1.2 مليار دولار أمريكي لتزويد الحكومة بالذخيرة الجوية) وأشباه الموصلات. تعمل دول الخليج، وخاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، على تنويع اقتصاداتها بعيدا عن النفط والغاز. ويشمل ذلك الاستثمارات الطموحة في الطاقة الخضراء والتصنيع المتطور والتكنولوجيا الدفاعية، وكلها تتطلب الحصول على العناصر الأرضية النادرة بشكل دائم ومستمر. تتوافق إمكانات جرينلاند لتصبح مصدراً بديلا لهذه المواد مع الجهود الخليجية لبناء سلاسل توريد مرنة ومتنوعة.[10]
وباعتبارها من الدول الأكثر تأثراً بتغيُّر المناخ، بما في ذلك ارتفاع درجات الحرارة ونُدرة المياه وارتفاع منسوب مياه البحر، فإن دول مجلس التعاون الخليجي معنية بدرجة كبيرة بفهم هذه الظاهرة والتعامل معها، خاصة وأن ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند يُعدّ سببًا ونتيجة في آنٍ واحد لتغيُّر المناخ.
يعد تسبب جرينلاند في ارتفاع مستوى سطح البحر على مستوى العالم مصدر قلق من نوع خاص. فإذا ذابت الطبقة الجليدية في جرينلاند بالكامل، فقد ترتفع مستويات سطح البحر بأكثر من سبعة أمتار، وهو ما يهدد المدن المنخفضة في الخليج مثل دبي والدوحة والمنامة. وبالنسبة لدول الخليج، جرينلاند ليست مجرد أمرٍ مقلق يقع بعيداً عن أراضيها، بل ترتبط ارتباطاً مباشراَ بأمن المناخ.
يمكن أن تشكل الأبحاث العلمية المشتركة حول ذوبان الجليد وتيارات المحيطات وأنظمة الطقس القطبية أساساً لمبادرات مراقبة المناخ المشتركة بين مؤسسات جرينلاندية والدنمارك ودول مجلس التعاون الخليجي. ومن شأن هذه الشراكات أن تعزز البنية التحتية للبيانات المناخية في الخليج وتساهم في إعداد استراتيجيات للتكيف طويلة الأجل. بدأت بعض الجامعات ومراكز الفكر الخليجية بالفعل في المشاركة في الدراسات القطبية وقد تتوج هذه الجهود من خلال التوصل إلى اتفاقيات رسمية أو إرسال بعثات فضائية تراقب التغيرات في القطب الشمالي.[11]
تعزز دول مجلس التعاون الخليجي من مشاركتها بشكل متزايد في أنظمة الحوكمة في القطب الشمالي كجزء من الاستراتيجية العالمية للتواصل والتعاون المشترك. مجلس القطب الشمالي الذي تأسس في عام 1996 هو المنتدى الحكومي الدولي الرائد لتعزيز التعاون والتنسيق والتفاعل بين دول القطب الشمالي والمجتمعات الأصلية حول مختلف القضايا مثل التنمية المستدامة وحماية البيئة والبحث العلمي. وعلى الرغم من أن هذا المجلس لا يمتلك السلطات اللازمة لتطبيق القرارات الملزمة، إلا أنه يتمتع بتأثير معياري كبير في تشكيل سياسة القطب الشمالي وتعزيز التعاون المشترك. يمنح مجلس القطب الشمالي صفة المراقب للدول غير القطبية التي تعترف بسيادة دول القطب الشمالي وتدعم أهداف المجلس وتبدي استعدادها للمساهمة في عمله.[12] ووافق مجلس الوزراء الإماراتي على انضمام الدولة إلى مجلس القطب الشمالي بصفة مراقب في أبريل 2025، مما يدل على استعداد الدولة للمشاركة في مناقشات حول التنمية المستدامة وحماية البيئة في المنطقة.[13] كما شاركت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بفعالية في جمعية الدائرة القطبية الشمالية، وهي منصة مفتوحة وديمقراطية ترحب بمشاركة الحكومات والمؤسسات والمجتمعات الأصلية والشركات والجامعات، ومراكز التفكير من جميع أنحاء العالم.
ومع زيادة سهولة الملاحة في طرق القطب الشمالي والسعي إلى تحقيق المزيد من الاستقلال الذاتي وشركاء التنمية، فأنه يجب على دول مجلس التعاون الخليجي ألا تلعب دور المراقب السلبي، بل يجب أن تكون أطرافاً فاعلة وسبّاقة في تشكيل مستقبل نظام القطب الشمالي، والذي سيؤثر بشكل متزايد على طرق التجارة وأمن الطاقة وتوازن المناخ العالمي.
بيان إخلاء المسؤولية:
الآراء والأفكار الواردة في سلسلة منشورات "رؤى وآراء" تعبر عن وجهات نظر كتّابها فقط، ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف مركز ربدان للأمن والدفاع أو أي من الجهات التابعة له أو أي جهة حكومية. يُنشر هذا المحتوى لأغراض إعلامية، ويعكس الرؤى الشخصية للمؤلفين حول مواضيع متنوعة تتعلق بالأمن والدفاع.
[1] Spence, Jennifer and Elizabeth Hanlon (2025) Explainer: The Geostrategic Significance of Greenland. Harvard Kennedy School: Belfer Center for Sciences and International Affairs, Geopolitical Significance of Greenland Explainer.pdf
[2] Tan, William (2024) The Coldest Geopolitical Hotspot: Global Powers Vie for Arctic Dominance over Greenland, Harvard International Review, The Coldest Geopolitical Hotspot: Global Powers Vie for Arctic Dominance over Greenland
[3] Paul, Michael and Göran Swistek (2022) Russia in the Arctic: Military Potential, and Conflict Prevention, Stiftung Wissenschaft und Politik (SWP), Russia in the Arctic - Stiftung Wissenschaft und Politik
[4]Graceffo, Antonio (2024) China and Russia Arctic Policy Convergence? Shifting Geopolitics in the North, Geopolitical Monitor, Situation Reports, China and Russia Arctic Policy Convergence? Shifting Geopolitics in the North | Geopolitical Monitor
[5] AP News, 'What to know about the US military’s Pituffik Space Base in Greenland', March 28, 2025, What to know about the US military's Pituffik Space Base in Greenland | AP News
[6] Vaillant, Tom (2024) ‘Greenland’s Rare Earths Attract European and U.S. Interest, Signaling Potential Mining Boom’, Pulitzer Center, Greenland’s Rare Earths Attract European and U.S Interest, Signaling Potential Mining Boom (German) | Pulitzer Center
[7] Scholaert, Frederik, 'EU-Greenland relations in fisheries', European Parliamentary Research Service (EPRS), March 2025, EU-Greenland relations in fisheries
[8] Malik, I.H. and Ford, J.D. (2025) ‘Understanding the Impacts of Arctic Climate Change Through the Lens of Political Ecology’, WIREs Clim Change, 16: e927. https://doi.org/10.1002/wcc.927
[9] Gupta, Prithvi and Aneesh Parnerkar, 'Understanding the potential of the Northern Sea Route,' Observer Research Foundation (ORF), September 18, 2024, Understanding the potential of the Northern Sea Route
[10] Menezes, Dwayne Ryan (2021) The Case for a Five Eyes Critical Minerals Alliance: Focus on Greenland, Polar Research and Policy Initiative, Report-The-Case-for-a-FVEY-CMA.pdf
[11] NASA (2019) 'Greenland's rapid melt will mean more flooding,' Sea Level Change, December 11, 2019, Greenland's rapid melt will mean more flooding – NASA Sea Level Change Portal
[12] Khorrami, Nima and Andreas Østhagen, 'Expanding Horizons: The UAE’s Strategic Foray into the Arctic', December 10, 2024, The Arctic Institute, Expanding Horizons: The UAE’s Strategic Foray into the Arctic | The Arctic Institute – Center for Circumpolar Security Studies
[13] Emirates New Agency-WAM, ‘Mohammed bin Rashid chairs UAE Cabinet meeting in Al Marmoom, launches 'Plant the Emirates' programme’, October 6, 2024, Mohammed bin Rashid chairs UAE Cabinet meeting in Al Marmoom, launches 'Plant the Emirates' programme | Emirates News Agency