شهد عام 2024 عدة تصدعات جيوسياسية مثل استمرار أمد الصراع العسكري الروسي الأوكراني وانضمام السويد إلى الناتو وارتفاع حدة الصراع في فلسطين والضربات الإسرائيلية في إيران ولبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا. كما شهد عام 2024 أيضا عودة دونالد جيه ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما وزاد من مخاوف المنظمات متعددة الأطراف والشركات متعددة الجنسيات والدول التي ترتبط بأنشطة تجارية مع الولايات المتحدة والصين.
وعندما ظهرت الصين كدولة رائدة في النظام العالمي، تغير النظام أحادي القطب الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية إلى نظام متعدد الأقطاب، وهو نظام تمتلك فيه دولتان أو أكثر قوة مماثلة لإدارة الشؤون العالمية. يختلف هذا العالم المتعدد الأقطاب عن عالم ثنائي القطب والذي ظهر خلال فترة الحرب الباردة عندما سيطرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على توازن القوى آنذاك، وشكل كل منهماً مركزاً للتحالفات العسكرية والاقتصادية. اختفت ثنائية القطب عن الوجود بعد أن ظهرت الدول المتوسطة في منتصف التسعينات إلى حيز الوجود. نشر مركز ستيمسون وهو مركز أبحاث أمريكي بحثاً بعنوان "اختبار الافتراضات: التعددية القطبية أكثر خطراً من القطبية الثنائية على الولايات المتحدة." وهذا يؤكد أنه لا توجد دولة واحدة تمتلك قوة عسكرية واقتصادية مطلقة وخاصة في السنوات الأربع الماضية. وأضاف المؤلفون أن "الولايات المتحدة لا تمتلك حالياً نفس القوة العسكرية والاقتصادية الذي كانت تمتلكها خلال العقود الأولى من الحرب الباردة". "ولا تمتلك الصين اليوم أيضاً نفس القوة التي امتلكها الاتحاد السوفيتي في ذروته."[i]
كيف ستتأثر التجارة والأمن بالنظام العالمي الجديد؟
يمكن للتكامل في العالم المثالي الذي يتسم بالعولمة أن يصل إلى جوانب مثل التجارة والشؤون المالية والتعاون وحركة الأيد العاملة. ويتفتت العالم عندما تتفكك كل هذه الجوانب أو -- أسوأ من ذلك -- تعود إلى الوراء.
تُسهّل التجارة في عالم يتسم بالعولمة التدفق الحر للسلع والخدمات عبر حدود الدول. وغيرت كارثة أحداث 9/11 المشهد الأمني وزادت من عملية التدقيق الأمني على الأشخاص المسافرين جواً، ومع ذلك استمر حجم التجارة في الارتفاع حتى ركود عام 2008، عندما انخفض مستوى التجارة، وهي ظاهرة سُميت "بالتباطؤ". وخلال إدارة ترامب الأولى (2017-2020)، أعلنت الولايات المتحدة عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25٪ على السلع الصينية التي وصلت قيمتها إلى 250 مليار دولار أمريكي، والتي تم تخفيضها لاحقا إلى 7.5٪ على المنتجات التي وصلت قيمتها إلى 120 مليار دولار أمريكي.[ii] وردت الصين بفرض رسوم جمركية على البضائع الأمريكية بنسبة 5٪ ، والتي تم تخفيضها إلى 2.5٪ على البضائع الأمريكية التي وصلت قيمتها إلى 75 مليار دولار أمريكي وذلك عندما خفّضت الولايات المتحدة رسومها الجمركية.[iii] كما علقت الصين استيراد السيارات الأمريكية وقطع غيارها، مما ألحق ضرراً شديداً بقطاع السيارات الأمريكي. وأصبحت العلاقات التجارية أكثر استقرارا بين الدولتين منذ ذلك الحين.
واتبعت الدول الأخرى نفس نمط التجارة الذي اتبعته الولايات المتحدة، حيث زادت التجارة في أواخر القرن 20 ولكنها تباطأت منذ عام 2008. وفي السنوات الأربع الماضية، أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) عن انخفاض مستمر في الاستثمار الأجنبي المباشر على مستوى العالم من 1951 مليار دولار أمريكي في عام 2021 إلى 1579 مليار دولار أمريكي في عام 2022، وانخفض أكثر في عام 2023 ليصل إلى 1355 مليار دولار أمريكي ووصل في الفترة بين يناير - يونيو 2024 إلى 802 مليار دولار أمريكي.[iv] ويرى صناع السياسات المتفائلون أن جائحة كوفيد-19 كانت السبب الأكبر وراء هذا الانخفاض، ومع ذلك، لم يتم تحديد ما إذا كان هذا النمط التنازلي سيستمر في المستقبل القريب أم لا.
كما تقلصت حركة الأيد العاملة في السنوات الخمس الماضية بسبب جائحة كوفيد 19. فمعظم اقتصادات الدول المتقدمة تعطي الأولوية للأيدي العاملة المحلية بدلاً من المواهب الأجنبية، وهذا يعني المزيد من الانخفاض في حركة الأيد العاملة في عام 2025. كما سهلت التطورات التكنولوجية عقد الاجتماعات بشكل افتراضي، وجعلت العمل عن بعد أكثر قبولاً، وهذا يعني أن المواهب الأجنبية يمكنها العمل عن بعد وليس حضورياً.
تؤثر المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين على الاستقرار الجيوسياسي، حيث أدت زيادة حدة المنافسة بين البلدين إلى التأثير على العلاقات بين تايوان والصين وخلقت تباينات بين دول جنوب شرق آسيا. ففي عام 2012، لم تتمكن رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) من تقديم بيان مشترك حول وجود الصين في بحر الصين الجنوبي لأن كمبوديا قررت عدم توقيع البيان في اللحظة الأخيرة. وفي وقت ظهرت بعض دول آسيان متفقة وبقوة مع الصين، أعربت دول أخرى عن استيائها من الدوريات الصينية في بحر الصين الجنوبي. كما انقسمت دول آسيان حول بحر الصين الجنوبي وزادت بعض الدول الأعضاء من اعتمادها التجاري على الصين.
قد نشهد في عام 2025 المزيد من العلاقات العدائية على الرغم من تأسيس منظمات متعددة الأطراف. أدى انهيار نظام الأسد إلى خلق فراغ في السلطة في سوريا، وهو ما يمكن أن تستغله الجماعات غير المسؤولة والتي ترغب في تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط. وستقوم إدارة ترامب بالتأثير على المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين بشكل مختلف عن إدارة بايدن. وقد تكون حرب الرسوم الجمركية بين واشنطن وبكين بداية لسلسلة من الأعمال الانتقامية الاقتصادية بين هذه القوى، والتي قد تمتد إلى الصراعات الأمنية والعسكرية.
ما الذي تبحث عنه في عام 2025؟
سيراقب صناع السياسة عن كثب في عام 2025 قضايا محددة مثل سوريا، والعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وفلسطين بعد وقف إطلاق النار. تشهد هذه القضايا الثلاثة هدوءً نسبياً في الوقت الحالي، ولكنهم قد يؤدوا إلى تفتت العالم إذا ما طرأ عليهم أي تغير. قد يؤدي فراغ السلطة في سوريا إلى تدخل الدول والجماعات الفاعلة كما حدث في العراق وليبيا وأفغانستان. ففي فبراير ومارس وحدهما، تصاعدت حدة الفوضى وقتل المدنيين في سوريا وتسببت في المزيد من حالة الارتباك للشعب السوري. لن تؤثر الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على واشنطن وبكين فحسب، بل ستمتد آثارها على الاقتصادات المصدرة مثل تايوان، وفيتنام، وماليزيا والتي تعتمد على التجارة بأشباه الموصلات والإلكترونيات. وفي الشرق الأوسط، لاقت فكرة إدارة ترامب والتي تقضي بنقل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة مثل الأردن ومصر رفضاً من هذه الدول، ولا يزال من غير المؤكد كيف سينتهي وقف إطلاق النار في فلسطين. وحافظت كل من الأردن ومصر على تأمين حدودهما بإحكام، مما أدى إلى تضخيم القضايا الإنسانية داخل فلسطين.
وبالتالي وبناء على هذه التطورات، فإنه من الصعب قياس مستوى التفتت الذي سيشهده العالم، ولكن العالم على ما يبدو يسير في ذلك الاتجاه في عام 2025.
بيان إخلاء المسؤولية:
الآراء والأفكار الواردة في سلسلة منشورات "رؤى وآراء" تعبر عن وجهات نظر كتّابها فقط، ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو موقف مركز ربدان للأمن والدفاع أو أي من الجهات التابعة له أو أي جهة حكومية. يُنشر هذا المحتوى لأغراض إعلامية، ويعكس الرؤى الشخصية للمؤلفين حول مواضيع متنوعة تتعلق بالأمن والدفاع.
[i] Ashford, E. and Cooper, E. (2023). Yes, the World is Multipolar And That Isn’t Bad News for the United States, Foreign Policy, https://foreignpolicy.com/2023/10/05/usa-china-multipolar-bipolar-unipolar/
[ii] York, E. (2025). Trump Tariffs: Tracking the Economic Impact of the Trump Trade War, Tax Foundation, https://taxfoundation.org/research/all/federal/trump-tariffs-trade-war/#timeline
[iii] Ibid.
[iv] OECD (2024). New OECD FDI Data: Trends, Impacts and Regulations https://www.oecd.org/en/blogs/2024/11/oecd-fdi-data-impacts-regulation.html